هل تعلم أن الحملات الصليبية التسع توجهت نحو الأراضي المقدسة، إلا واحدة توجهت نحو تونس؟

الأسباب الحقيقية الكامنة وراء الحملة الصليبية على تونس

بعدما أضحت وجهةُ الحملةِ عكا، تمكن عاهل صقليّةَ شارلُ الأولُ الذي يعرفُ أيضاً باسمهِ الأصلي “شارل من أنجو” (بالفرنسية) Charles d’Anjouإقناعَ أخيهِ لويسَ بأنْ يغزو تونسَ بداية.

لم تكن الأسباب لغزوِ تونسَ معروفةً تماماً، إذ ذكر المؤرخُ “سابا مالاسبينا” من القرنِ الثالثَ عشرَ أنَّ شارلَ أقنعَ لويسَ بمهاجمةِ تونسَ لأنه ابتغى ضمانَ دفعِ المؤدّى الحولي الذي كانَ حكامُ تونسَ الحفصيّونَ آنذاك يدفعونه إلى الإمبراطورِ الرومانيّ المقدس (20-1250) وملكِ صقليّةَ (1198-1250) فريدريك الثاني الشفابي من آلِ هوهنشتاوفن الألمان.

كانَ لويسُ مقتنعاً بأنَّ الملكَ الحفصيَّ أبا عبد الله محمداً المستنصرَ (حكم 49-1277) لديهِ قابلية للانتقال إلى النصرانية. كانَ لحكم تونسَ ارتباطات مع إسبانيا المسيحيّةِ، وأفترض مرشحاً قابلاً للتنصير.

وتلوح أقربُ التصوراتِ لأسباب الهجوم على تونسَ أنه كانتْ لدى شارلَ طموحاتُه لإقامة إمبراطورتيه الخاصةِ في حوضِ المتوسطِ. فرأى أن يتحين المناسبة بالاستفادةِ من حشد أخيهِ لابتزاز حاكم تونسَ، فيما يغتنم لويسُ احتلالَ تونسَ لتمويلِ حملتهِ على مصرَ وإعدادها بما يتحصَلُ له منْ ذاكَ الاجتياح، لا سيما وأنَّ تونسَ أضعفُ عسكريّاً من مصرَ.

والسائد أنّه كانَ يشكو من قصور التمويلِ لدرجةِ أنَّ الإعداد للهجوم دام أكثرَ من ثلاثِ سنواتٍ، كانَ يمكنُهُ تطويع مرتزقةٍ لتدعيم كتائبهِ وابتياع سلاح ومؤنٍ إذ كانَ لزاماً عليهِ تمويلُ قسم كبيرٍ من جيشِهِ من خزينتِهِ، بعدما خذلَه النبلاء ولم يبدوا كبيرَ اهتمام بالاتجاه نحو المشرقِ.

كانَ للويسَ خبرة سابقة بذلكَ ففي ختام الحملة الصليبيةِ السابعةِ، مكث بعد نجاته من الأسرِ أربعَ سنواتٍ (50-1254) في عكا يكاتب النبلاء حتى يلتحقوا به في فلسطينَ ويواصلوا القتالَ مجدداً. لكنهم أبوا ذلك وأجبر على العودة إلى فرنسا بخفّيْ حنين في النهاية.

 ولا يخفى أنَّ الأوضاع في المشرقِ كانتْ مناسبة أكثرَ مقارنة بوقتَ الحملةِ السالفة من حيث استقرارُ ظروف الإماراتِ الصليبيّةِ نوعاً ما، والزعزعة والتشرذمُ في الإماراتِ الأيوبيّةِ، والصراع على الحكم فيما بينَ الأمراءِ المماليك.

كانتْ تونسُ بلداً ثريا بفعلِ التجارةِ الرائجةِ للقوافلِ عبرَ الصحراءِ مع مملكةِ مالي، وكانَ الذهبُ من مناجمِ غانا التابعةِ لبلاطِ “تُمْبُكتو” يتدفقُ على شمالِ إفريقيا، وكذلك الملح وتجارة الرق، وساهموا في حيوية اقتصاديّاتِ جنوبِ أوروبا بمفعول المبادلاتِ التجاريّةِ عبرَ البحر المتوسطِ، فكانتْ جنوا -على سبيلِ المثالِ-تحتلُّ مدينةَ جيجلَ منذ عامِ 1240م وتتخذُ منها ركيزة تجاريّةً لها.

والمعروفُ أنَّ تبنيِّ الأرقام العربيّةِ عوضاً عنِ الرومانيّةِ شاعَ في أوروپا بفضلِ “ليوناردو فيبوناتشي” وكتابِهِ (الذي خرَجّ إلى النّورِ عامَ 1202م)، وفيبوناتشي استقى علومَه وكوّنَ خبراتِهِ في شمالِ إفريقيا، إذْ كانَ والده مفوضا لإدارةِ مستوطنة تجاريّةِ لـ”بيزا” في بُجّايةَ ولكي يهيئ ولده لإدارةِ أعمالِ الأسرة بعثه يتعلمُ الحسابَ -ربما مثلَ كثيرٍ غيرِه وقتئذٍ-على يدِ معلمٍ عربيٍّ.

ولقرونٍ كانَ التبر يتحول إلى أوروبا عبرَ شمالِ إفريقيا وطرقِ القوافلِ عبرَ الصحراءِ الكبرى، فكانَ الذهبُ المستخرجُ من مناجمِ السودانِ يحول على طولِ هذهِ الطرقِ إلى تونسَ، والإسكندريّةِ، ومراكشَ، وبُجّايةَ، والجزائر ووهرانَ، وطنجةَ حيثُ يقايضه التجارُ الطليانُ والبروڤنساليّونَ والأندلسيّونَ المسلمونَ والقشتاليّونَ والأراچونيّونَ بالبضائع الأوروبية.

في بالمقابلِ كانتِ السفنُ التونسيةُ تطبق الشأن نفسه مع دويلاتِ جنوبِ أوروبا. فبموجبِ اتفاقية مع فريدريك الثاني (ملكِ صقليةَ 1198-1250) -الذي عيّن سفيراً له في البلاطِ التونسي-كانَ الحفصيّونَ يدفعُونَ له أداءً سنويّاً كرسم عنِ اتجارِهمْ في أراضيهِ وتأمينِ سفنهم.

طلبَ شارلُ معاملةً مماثلة فامتنع المستنصرُ، وكانَ قد آوى إليهِ أفراداً من آلِ هوهنشتاوفن المطالبينَ بعرشِ صقليةَ، فاستحكمَ الاحتقان بينهما.

وكانَ لابدَّ منْ عذر حولَ سببِ تحويلِ المقصد عنِ الأراضي المقدسةِ سوى المطامعِ الماديّةِ، وهنا ظهرتْ مسألة إقناعِ حاكم تونسَ بالتنصّر، لكنَّ المؤشراتِ على أرجحية تحولِ الحاكم الحفصيِّ إلى النصرانية ضعيفةٌ للغايةِ.

لقدْ كانَ من فقرات معاهدة السلام مع الحاكم نهايةَ الحملةِ بغيةَ الانسحابِ من تونسَ الترخيص للرهبانِ والقسسِ بالإقامةِ في تونسَ، فكانَ الأولى بالمستنصرِ -لو كانَ ميّالاً إلى النصرانيّةِ-أن يؤذن لهم من قبلِ ذلكَ بالإقامةِ في دولته ويحتويهم بعنايته بل ويسخر لهم أسبابَ بثِّ دعوتهم، كما أنَّ المعاهدة جاءتْ خالية من أي علامة لديانة السلطانِ أو رعيّته.

وسبقَ للمستنصرِ بُعيْدَ سقوطِ بغدادَ أنْ طلبَ من شريفِ مكةَ المبايعة كي لاتنقطعَ الولاية فبعثها الشريفُ له، فتسمى بأميرِ المؤمنينَ (أواخرَ 656هـ/1258م).

وهذا يدلُّ على أنَّه كانَ للمستنصرِ مساعيه الخاصةُ نحوَ قيادة العالمِ الإسلامي مما يتعارض ورغبتَه في التنصرِ. إلا أنَّ هذا سيفيدُ لويسَ على كلِ حالٍ في تأمين مقصده، إذْ سيكونُ للحملةِ -إن لم تفلحْ في تنصيرِ أميرِ المؤمنينَ-ضجةٌ في أوروپا بانكسار خليفةِ المسلمينَ، ومدخل إعلاميٌّ واسع قبل غزوِ مصرَ.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى