عبد الناصر: زعامة الوهم وسقوط الحلم العربي

حاتم الكافي لـ"نموذج": قراءة جريئة في زعامة عبد الناصر بين الأسطورة والواقع إعداد: محمد العبيدي

في زمنٍ ضاعت فيه الحقائق بين الشعارات، وتحوّلت فيه الخسائر إلى أمجادٍ مصطنعة، لا بد أن نعيد النظر في ما يُسمّى بـ”الحقبة الناصرية”. فما يُروّج له على أنه عصر النهضة والوحدة القومية، لم يكن في الواقع سوى فاصل مأساوي في تاريخ مصر والعرب، عناوينه: الاستبداد، الانهيار، والكوارث المتسلسلة.


قبل الزعيم… كانت مصر تنبض بالحياة

لم تكن مصر قبل 1952 جنةً كاملة، لكنها بالتأكيد لم تكن خرابة كما صوّرها إعلام الثورة. كانت القاهرة مدينةً عالمية، تزاحم باريس في ثقافتها، وتتفوّق على العواصم العربية في التعليم والفنون. كانت الجامعات مزدهرة، والاقتصاد في طريقه للنمو، والصناعة الوطنية تخطو بثبات، مدعومة بطبقة وسطى ناشئة. جاءت ثورة يوليو لتوقف هذا الزخم باسم “التحرّر”، لكنها في الحقيقة حرّرت الدولة من المؤسسات، وأسلمتها لسلطة الفرد الواحد.


ثورة بلا خطة… دولة بلا عقل

ما الذي تغيّر؟ أُلغيت التعددية، واحتُكر القرار، وتحولت مصر إلى مختبر لتجارب سياسية مرتجلة. الإصلاح الزراعي هشّم البنية الفلاحية بلا بديل. التأميمات دمّرت روح المبادرة، والصناعة أُخضعت لبيروقراطية متهالكة لا تعرف سوى التعليمات. ومع ذلك، ظل الخطاب الرسمي يبيع الوهم، ويتغنى بـ”الكرامة”، بينما الكرامة الحقيقية كانت تُسحق في المعتقلات، وتُدفن تحت الأرض.


عصبة الجنرالات… والعبث بمصير أمة

لم تكن المشكلة في عبد الناصر وحده، بل في المنظومة التي أنشأها حوله. من عبد الحكيم عامر، الذي دُمّرت بسببه الجيوش، إلى صلاح نصر، الذي حوّل المخابرات إلى أداة تجسس داخلي وانحراف أخلاقي، إلى طبقة من المنتفعين الذين نهبوا البلاد تحت ستار الاشتراكية… لقد سقطت الدولة في قبضة “شِلة”، تقرّر، تنفّذ، وتُصفّي من يعارض، وكل من يجرؤ على النقد يصبح خائنًا في نظر النظام.


من مغامرة اليمن… إلى نكسة بلا نهاية

بعيدًا عن التنظير، ماذا بقي من المشاريع الكبرى؟ الوحدة مع سوريا انهارت بعد عامين، بعد أن تحولت إلى احتلال سياسي صريح. الحرب في اليمن استنزفت الآلاف من الجنود بلا جدوى. ثم جاءت نكسة 1967 لتكشف هشاشة كل شيء. جيش مهزوم، قيادة مرتبكة، وأراضٍ عربية تُبتلع أمام أعين الملايين. لم يكن خطاب “التنحي” سوى مسرحية لامتصاص الغضب الشعبي، تلاها رجوع مرتب ومخطط، وكأن شيئًا لم يكن.


ما بعد الموت: أسطورة تنهار ببطء

عندما رحل عبد الناصر في 1970، خرجت الملايين تبكي، ليس حبًا فيه بالضرورة، بل خوفًا مما بعده، ولأن الناس لا تُدرك الكارثة إلا بعد حين. لم يترك خلفه إلا دولة مرهقة، واقتصادًا مفلسًا، ومجتمعًا مكسورًا، و”وعيًا قوميًا” ملغومًا بأوهام الزعامة و”المشروع الكبير” الذي لم يكن سوى سراب.


خاتمة: كفى خداعًا… فلنواجه الحقيقة

لا نكتب هذا المقال لنشمت في ماضٍ مؤلم، ولا لنجلد رجلاً مات منذ نصف قرن. بل لنكسر دائرة التقديس الأعمى، لأن الأمم التي لا تراجع أساطيرها تظل حبيسة الفشل. التاريخ لا يُغفر فيه الغباء ولا الحماسة الفارغة. وقد آن الأوان لنقولها بوضوح: عبد الناصر لم يكن زعيمًا نهضويًا، بل عنوانًا لفشلٍ جماعي ندفع ثمنه حتى اليوم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى