نظام «اليد الميتة» الروسي: هل أصبح العالم رهينة جنرال روسي واحد؟

اليد الميتة: مصير العالم بين يدي جنرال روسي مجهول

في صلب سباق التسلح خلال الحرب الباردة، طوّر الاتحاد السوفييتي جهازاً نووياً سرياً أشبه بـ«آلة نهاية العالم» لضمان الرد حتى لو فقدت القيادة العليا للدولة. يقول أحد مهندسي النظام: «نقطة هذا النظام… ضمان رد أوتوماتيكي للاتحاد السوفييتي على ضربة نووية أميركية… حتى لو دمّرت الولايات المتحدة كل القيادة العليا». وقد كان «بيريمتر» (Perimeter) أو ما يُعرف بالـ«يد الميتة» جزءاً من عقيدة الردع المتبادل (MAD)، إذ يضمن أن كل من يبدأ ضربة نووية يلقى مصيره المماثل.

الخلفية التاريخية لنظام «اليد الميتة»

ظهر نظام «اليد الميتة» خلال ثمانينيات القرن الماضي في ظل توتر نووي متصاعد بين القوتين العظميين. ففي هذا العقد كان السوفييت يضيقون الفجوة النووية مع الولايات المتحدة، ثم تبنت إدارة ريغان سياسة خارجية تصوّرها الروس حازمة وعسكرة. أشرناقد أن موسكو شعرت آنذاك بخطر «الضربة المباغتة» التي قد تقتل قيادتها بالكامل، فكثفت جهودها لتطوير بدائل آلية تضمن الرد الثاني. وبحسب كبار مهندسي المشروع، صُمّم بيريمتر ليكون بمثابة ملجأ ضد القرارات المتسرّعة؛ فإذا ما اندلعت أزمة نووية يمكن للقائد الروسي تفعيله وانتظار تطوّر الأحداث، مطمئناً إلى أن «دك كل العناصر ذات الصلاحية لن يمنع الرد الانتقامي».

آلية عمل النظام

يُفعل النظام بقرار من أعلى قيادة سياسية أو عسكرية روسية في حالة أزمة شديدة. عند التفعيل، يبدأ «بيريمتر» بمراقبة شبكة معقدة من المستشعرات (زلزالية، إشعاعية، ضغط جوي…) لرصد أي انفجار نووي في عمق روسيا. فإذا أكد النظام وقوع ضربة نووية، يتحقق أولاً مما إذا كانت قنوات الاتصال بقيادة الأركان العامة لا تزال حية. في حال استمر الاتصال ولم يتلق النظام أوامر جديدة خلال فترة محددة، يُفترض وجود قيادة حية وقادرة على إصدار الأوامر بنفسها. أما إذا انقطع الاتصال، فإن النظام يفترض أن الكارثة حلت كاملة، فيحوّل صلاحية الإطلاق إلى من يكون على رأس تشغيل النظام في تلك اللحظة. ويُبرز تحليل في Wired أنه في تلك الحالة قد تكون «سلطة تدمير العالم» بحوزة أي شخص في المخبأ المحصّن – ربما وزير كبير أو حتى ضابط شاب في العشرين من عمره – طالما استمر في تشغيل النظام.

أهم مكونات هذا النظام التقنية والعسكرية هي:

  • محطات الاستشعار: شبكة متكاملة من أجهزة قياس الزلازل والحرارة والإشعاع الجوي، ترصد علامات الانفجارات النووية وتحدد وقوعها.
  • صاروخ قيادة خاص: صاروخ مزوّد برأس حربية راديوية ينطلق أولاً بعد التفعيل ويطير عبر البلاد، ليبث أوامر الإطلاق مشفّرة إلى صوامع الصواريخ الباليستية حتى في ظل التشويش.
  • صوامع محصنة وصامتة: صوامع خاصة للبثّ مهيّأة لتحمل انفجار نووي ومحميّة من التداخل، تستقبل أوامر الإطلاق وتحرّر الصواريخ حسب الكود المسبق.
  • دليل إطلاق مخزن: أوامر إطلاق نووية رفيعة مُسبقة تعتمد رمزاً واحداً على مستوى الأركان العامة أعلى من الصواريخ الفردية؛ يضمن هذا السرية ويوفّر إمكانات رد سريعة في حال فشل قناة القيادة التقليدية.

وضع النظام في العقيدة الروسية اليوم

رسميًا، لا تعترف الحكومة الروسية علنًا بوجود هذا النظام، ولم تظهر تفاصيله في الوثائق الرسمية للعقيدة النووية الروسية. ومع ذلك، صدرت إطلالة غير رسمية على وجوده. ففي مقابلة عام 2011 مع صحيفة روسية، أكد قائد قوات الصواريخ الاستراتيجية آنذاك الجنرال سيرغي كاراكاييف أن المنظومة جاهزة للعمل وأن «الولايات المتحدة قد تُدمّر في 30 دقيقة» عبرها. كذلك صرح الجنرال المتقاعد فيكتور يسين بأن «بيريمتر» خضع لتطويرات ويعمل بكفاءة. ووفقًا لتقارير عسكرية غربية، النظام لا يزال نشطاً اليوم. ولعل تصعيد الأزمة الأوكرانية أخيراً دفع الكرملين إلى التلويح العلني بقدراته النووية: فقد وضع الرئيس بوتين قوات الردع في أعلى درجات التأهب مرات عدة، بما يشمل أيضاً إشارات ضمنية إلى استعداد نظام «اليد الميتة» للقتال.

أثر النظام في ميزان الردع النووي

يعزز «بيريمتر» مبدأ الردع النووي بضمان ما يعرف بالقدرة على الضربة الثانية. فبوجود هذا الضمان الأوتوماتيكي، يزعم الخبراء أنه يصعب على أي خصم أن يشعر بالثقة بتنفيذ ضربة أولى كاملة ضد روسيا دون خوف تام من الانتقام الحتمي. بمعنى آخر، يؤكد النظام أن أي هجوم نووي على روسيا سيُقابَل برد مدمر مماثل، ما يعمّق مفهوم «الردع الاستراتيجي» ويدعم سياسة العقيدة النووية الروسية التي ترى في السلاح النووي طوق نجاة للأمن القومي.
ولكن من زاوية أخرى، يحذّر محللون من أن هذا الحصن الآلي يضع العالم في مأزق جديد. فكما يشير تحليل في WaronTheRocks، صُمم النظام ليخفف الضغط على زعماء موسكو في اتخاذ قرار نووي مفاجئ ويمنحهم وقتاً للتريث، لكن «تكلفة» ذلك هي «مسار ميسّر نحو الهلاك النووي» في حال أي عطل أو إنذار خاطئ. بعبارة أخرى، يفتح الاعتماد على جهاز أوتوماتيكي لتفعيل الرد النووي احتمال وقوع كارثة غير مقصودة إذا أخطأ النظام في تقييم المعطيات أو حُسِب له خطأ.

السيناريوهات الجيوسياسية الراهنة

عادت المخاوف النووية إلى الواجهة مع تصاعد التوترات في أوكرانيا وفكرة توسع الناتو. ففي 2024، وسّع الرئيس بوتين قائمة الحالات التي قد يجيز فيها الرد النووي لتشمل أي «هجوم تقليدي كبير» على روسيا برعاية دولة نووية أخرى. وبحسب تقرير لوكالة رويترز، فإن خطط الولايات المتحدة ودول الغرب لدعم أوكرانيا بأسلحة بعيدة المدى أزعجت موسكو، فكانت رسالتها واضحة: الوجود العسكري الغربي المباشر على الأراضي الروسية «قد يعني حرباً نووية». ويجدر بالذكر أن العقيدة النووية الرسمية لعام 2020 اكتفت بتحديد أربع حالات للاستعمال النووي (منها هجمات صاروخية وتهديد وجود الدولة)، مما يشير إلى أن التعليقات الأخيرة لبوتين وتلميحات قياداته تتجه نحو توسيع مفهوم التهديدات المبررة حسب الظروف الراهنة.

الدور الغامض للقيادات العسكرية

لا تزال آليات تفعيل «اليد الميتة» وإدارتها غامضة بشدة. فالقرار الأولي للتفعيل يعتمد على أمر رئاسي أو قرارات عليا مُسبقة، لكن Wired تكشف أنه بعد انقطاع الاتصال بالقيادة العليا تنتقل سلطة الإطلاق إلى من يشغّل النظام في قاعدةٍ محصّنة. وكما جاء في التحقيق الصحفي، إذا غابت القيادة العسكرية العليا، فإن النظام «ينقل صلاحية الإطلاق إلى مَن كان يقوم بتشغيله في تلك اللحظة في المخبأ» – وقد يكون هذا أي ضابط من خفر النظام. ومن هذا المنظور الدرامي برز التعبير الشعبي بأن «مصير العالم بيد جنرال روسي مجهول»؛ إذ إن القرار النهائي قد يقع في أيدي أحد الأشخاص العاملين بالنظام تحت الأرض في لحظة حاسمة.

تحليل استراتيجي: ردع أم كارثة محققة؟

يبقى السؤال الاستراتيجي: هل يردع «اليد الميتة» الحرب أم يقربها؟ يرى مؤيدوه أنها تزيد من ثقة روسيا في قدرتها على الانتقام، ما يجعل أي خصم يفكر ألف مرة قبل الهجوم . أما منتقدوها، فيعتبرونها «سيفًا مسلّطًا» على البشرية كلها؛ فإن أتمتة الرد تزيد من احتمال حصول خطأ كارثي في الأوقات الحرجة. باختصار، فالنظام يجسّد الرعب النووي بحدّ ذاته: فهو يمنح الردع ثقة إضافية، لكنه في ذات الوقت يقلل من هامش الخطأ البشري، مما قد يجعل نهاية أي حرب نووية محتملة أكثر حتميةً في حال فشل في ضبط الأمور. هذا التوازن الدقيق بين الردع والاستقرار هو ما يستدعي نقاشات عميقة حول الحاجة إلى آليات أوتوماتيكية من هذا النوع في عصر باتت فيه الأخطاء التكنولوجية قد تعني نهاية العالم.

مصادر: تقارير صحفية وتحليلات أمنية غربية متخصصة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى