من الدب الروسي إلى التنين الصيني: رموز تختزل تاريخًا وثقافة

ليست الرموزُ الوطنيةُ مجرَّدَ شعاراتٍ تُزيِّنُ الأعلامَ أو تُنقَشُ على العملات، بل هي مرايا تعكسُ روحَ الأممِ، وشفراتٌ تُخبئُ في طياتِها حكاياتِ التَّاريخِ والجغرافيا. فالدبُّ الروسيُّ ليس حيوانًا ضخمًا يَطوفُ غاباتِ سيبيريا فحسب، بل هو قصةُ قوةٍ تَختزلُ مخاوفَ الغربِ وطموحاتِ الشرق. والتنينُ الصينيُّ ليس مخلوقًا خرافيًّا يُرعبُ الأطفالَ، بل هو سِرُّ حضارةٍ رأت في النارِ نبعَ حياةٍ، وفي السماءِ مَعبَدًا للآلهة. هكذا تتحولُ الكائناتُ إلى رموزٍ حين تَعبُرُ حاجزَ الواقعِ إلى مملكةِ المخيالِ الجمعيِّ، حاملةً معها أفراحَ الشعوبِ وهزائمَها، وأسئلتَها الوجوديةَ عن القوةِ والحريَّةِ والخلود.


1. روسيا: الدبُّ.. سيدُ الغاباتِ وقاهرُ الجليد

قبل أن يُصبحَ الدبُّ رمزًا سياسيًّا في خطاباتِ الغربِ، كان سَيدًا أسطوريًّا في تراتيلِ السلافِ القدماءِ، الذين رأوا في قوَّتِه الخامِ انعكاسًا لقسوةِ الطبيعةِ الروسيةِ وجبروتِها. ففي أساطيرِهم، كان الدبُّ يُجسِّدُ الإلهَ “ڤليس” حاميَ الغاباتِ، الذي يُمسكُ بمصائرِ البشرِ بين مخالبِه. لكنَّ التحولَ الأبرزَ حدثَ في القرنِ الثامنَ عشرَ، حين بدأ الكاريكاتيرُ الأوروبيُّ يرسمُ روسيا كدبٍّ عملاقٍ يَتهادى فوقَ خريطةِ العالمِ، مُحمَّلًا برموزِ التوسعِ والتهديدِ.

اللافتُ أنَّ الدبَّ لم يُعتمدْ رسميًّا كشعارٍ للدولةِ الروسيةِ، لكنَّه تسرَّبَ إلى الوعيِ العالميِّ حتى صارَ مرادفًا لـ”الروحِ الروسيةِ” التي تجمعُ بين الكرمِ والغموضِ والشراسةِ. يقولُ المؤرخُ نيقولايْ كاراتشكينْ: “الدبُّ الروسيُّ هو نحن.. نَحنُ الذين نعيشُ في صراعٍ دائمٍ بين دفءِ البيوتِ وبرودةِ السهوبِ”.


2. الصين: التنينُ.. نَفَسُ السماءِ الذي لا يخبو

في الوقتِ الذي تخشى فيه أوروبا التنينَ كمخلوقٍ ناريٍّ مُدمِّرٍ، تُقدِّسُه الصينُ كحاكمٍ للكونِ يجسِّدُ “التَّاي تشي” – توازنَ الين واليانغ. فالتنينُ الصينيُّ ليس له أجنحةٌ، لكنَّه يطيرُ باستدارةِ جسدِه التي ترمزُ إلى دورةِ الزمنِ، وعيناهِ تُجسِّدانِ الشمسَ والقمرَ. ومنذُ عهدِ الإمبراطورِ الأصفرِ (2698 ق.م)، صارَ التنينُ شعارًا للإمبراطورِ، الذي كان يُلقَّبُ بـ”ابن التنين”، حتى إنَّ عرشَه سُمِّيَ “عرش التنين”، ونَفَسَه “ريح التنين”.

اليومَ، ورغمَ الثورةِ الثقافيةِ التي حاربتْ “الرموزَ الإقطاعيةَ”، يعودُ التنينُ ليحلقَ في سماءِ الصينِ الحديثةِ، مُزيِّنًا مهرجاناتِ رأسِ السنةِ، ومُلهِمًا فنَّاني الهوليوودِ الذين يسعونَ لفكِّ شفراتِ القوةِ الناعمةِ الصينيةِ. وكما كتبَ الشاعرُ لي باي: “حين يَهمسُ التنينُ، تَنحني الجبالُ.. هذا هو سرُّ أمَّتنا: أن نُحرِّكَ العالمَ بلطفِ الأساطيرِ”.


3. فرنسا: الديكُ.. صياحُ الثورةِ الذي أيقظَ أوروبا

قد يبدو اختيارُ الديكِ رمزًا لفرنسا – بلدِ الأناقةِ والفلسفةِ – مفارقةً تاريخيةً، لكنَّ القصةَ بدأتْ بلعبةِ كلماتٍ رومانيةٍ! فكلمةُ “غالوس” اللاتينيةُ تعني كِلْمني: الديكَ، و”غاليا” هو الاسمُ القديمُ لفرنسا، فتحوَّلَ الديكُ إلى توريةٍ سياسيةٍ استخدمها الرومانُ لسخريةٍ من حليفِهم الفرنسيِّ الذي “يُصيحُ كثيرًا ويقاتلُ قليلًا”. لكنَّ الفرنسيينَ قلبوا السحرَ على الساحرِ: خلالَ الثورةِ الفرنسيةِ (1789)، حوَّلوا الديكَ إلى رمزٍ للمقاومةِ ضدَّ الاستبدادِ، فظهرَ على الأسلحةِ والعملاتِ، ورسمه ديلاكروا في لوحةِ “الحريةُ تقودُ الشعبَ”.

المفارقةُ أنَّ الديكَ لم يُعتمدْ رسميًّا (الرمزُ الرسميُّ هو شعارُ “FAR” الذي يجمعُ بين الزهرةِ والفأسِ)، لكنَّه ظلَّ حيًَّا في الملاعبِ الرياضيةِ، حيث يُطلِقُ الجمهورُ الفرنسيُّ صيحاتِ التشجيعِ محاكاةً لصوتِ الديكِ، وكأنَّهم يُعيدونَ إنتاجَ أسطورةِ “الشعبِ الذي لا يُقهَرْ”.


4. الولايات المتحدة: النسرُ الأصلعُ.. جناحانِ يرفرفانِ فوقَ العالمِ

في عامِ 1782، اختارتِ الولاياتُ المتحدةُ النسرَ الأصلعَ رمزًا وطنيًّا، لكنَّ القرارَ لم يكُنْ إجماعيًّا. فقد فضَّلَ بنجامين فرانكلين – أحدُ الآباءِ المؤسسينَ – الديكَ الروميَّ، واصفًا النسرَ بأنَّه “لصٌّ جبانٌ” يسرقُ فرائسَ غيرِه! لكنَّ النسرَ انتصرَ لكونِه يجسِّدُ “الاستعلاءَ” الذي يتناغمُ مع خطابِ “القدرِ المتجلِّي” التوسعيِّ.

النسرُ الأمريكيُّ ليس مجرَّدَ طائرٍ، بل هو آلةُ سردٍ أسطوريةٍ: مخالبُه اليمنى تمسكُ بغصنِ زيتونٍ (رمزُ السلامِ)، واليسرى تحملُ سهامًا (رمزُ الحربِ)، ورأسُه يتجهُ نحوَ السلامِ، وكأنَّه يُعلنُ أنَّ الحربَ ليستْ إلَّا طريقًا إلى السلامِ! هذه الثنائيةُ تجعلُ منه رمزًا مثاليًّا لقوةٍ عظمى ترى نفسَها “شرطيًّا عالميًّا”.


5. بريطانيا: الأسدُ.. زئيرُ الإمبراطوريةِ التي لا تغيبُ عنها الشمسُ

“قلبُ الأسدِ”.. هكذا لُقِّبَ الملكُ ريتشارد الأولُ، الذي جعلَ من الأسدِ شعارًا ملكيًّا في القرنِ الثانيَ عشرَ، لكنَّ الرمزَ اكتسبَ قدسيتَه مع صعودِ الإمبراطوريةِ البريطانيةِ. فالأسدُ – الغريبُ عن جغرافيا بريطانيا الباردةِ – كان خيارًا ذكيًّا: فهو يرمزُ للهيمنةِ (كأسدِ الغابةِ)، ويُوحي بالشرعيَّةِ التاريخيةِ (كرمزٍ ملكيٍّ).

ولتعزيزِ السرديةِ، قُورِنَ الأسدُ البريطانيُّ بالتنينِ الويلزيِّ أو الثورِ الأيرلنديِّ، في استعارةٍ لصراعِ المركزِ مع الأطرافِ. اليومَ، ورغمَ زوالِ الإمبراطوريةِ، ما زالَ الأسدُ يُزينُ شعارَ الفريقِ الملكيِّ لكرةِ القدمِ، وكأنَّ بريطانيا تُذكِّرُ العالمَ: “الإمبراطوريةُ لا تموتُ، بل تتحولُ إلى سردٍ ثقافيٍّ”.


6. الهند: النمرُ البنغاليُّ.. أناقةُ الأدغالِ وشراستُها

قد يتساءلُ البعضُ: لماذا اختارتِ الهندُ – أرضَ الفيلةِ المقدسةِ – نمرًا بنغاليًّا كرمزٍ وطنيٍّ؟ الإجابةُ تكمنُ في عامِ 1972، حين أطلقتِ الحكومةُ حملةَ “إنقاذِ النمرِ” لمنعِ انقراضِه، فتحوَّلَ إلى أيقونةٍ للحركةِ البيئيةِ. لكنَّ الرمزيةَ أعمقُ: فالنمرُ في الميثولوجيا الهندوسيةِ هو المركبةُ الإلهيةُ للإلهةِ “دورغا” محاربةِ الشرورِ، وهو أيضًا تجسيدٌ لـ”شاكتي” – طاقةِ الكونِ الأنثويةِ.

في الأدبِ، مثَّلَ النمرُ البنغاليُّ تحديَّ الاستعمارِ البريطانيِّ، كما في روايةُ “كتابُ الأدغالِ” لروديارد كبلينغ، التي حوَّرَها الهنودُ لاحقًا لتعكسَ مقاومةَ الطبيعةِ للاحتلالِ. النمرُ هنا ليس حيوانًا، بل هو “كائنٌ سياسيٌّ” يُعيدُ كتابةَ التاريخِ بأظافرِه.


7. ألمانيا: النسرُ.. ظلُّ الإمبراطوريةِ الرومانيةِ المقدسةِ

“النسرُ الفيدراليُّ”.. هكذا يُنعَت الشعارُ الألمانيُّ الذي يعودُ إلى أيامِ شارلمانْ، الذي أعادَ إحياءَ رمزِ النسرِ الرومانيِّ عامِ 800م ليوحِّدَ أوروبا تحتَ رايةٍ واحدةٍ. واليومَ، يُعبِّرُ النسرُ الألمانيُّ عن ثنائيةِ الهويةِ: فجناحاهُ يمتدانِ شرقًا وغربًا (إشارةٌ إلى الوحدةِ بعد سقوطِ جدارِ برلينَ)، وعيناهُ تحدقانِ نحوَ المستقبلِ، بينما يُمسكُ بقدميهِ إكليلًا من أوراقِ البلوطِ (رمزُ المجدِ).

في كتابِه “رمزيةُ السلطةِ”، يرى المؤرخُ أوتو كيلر أنَّ اختيارَ ألمانيا للنسرِ – وليس للدبِّ مثل جارتها روسيا – هو محاولةٌ لربطِ نفسِها بتراثِ الإمبراطوريةِ الرومانيةِ، بدلَ الانتماءِ إلى “الهمجيةِ السلافيةِ”!


8. كندا: القندسُ.. مهندسُ السدودِ وصانعُ الاقتصادِ

في القرنِ السابعَ عشرَ، لم تكنْ كندا سوى أرضٍ مغطاةٍ بالثلوجِ والغاباتِ، لكنَّها تحوَّلتْ إلى إمبراطوريةٍ تجاريةٍ بفضلِ “الذهبِ البنيِّ” – فراءِ القندسِ – الذي أثارَ حماسَ الأوروبيينَ لصناعةِ القبعاتِ الفاخرةِ. وهكذا، لم يكنْ اختيارُ القندسِ رمزًا وطنيًّا عامَ 1975 مجرَّدَ تكريمٍ لحيوانٍ لطيفٍ، بل اعترافٌ بدورِه في تأسيسِ الاقتصادِ الكنديِّ.

لكنَّ الرمزيةَ تتجاوزُ المادَّةَ: فالقندسُ – ببنائِه للسدودِ وتعاونِه مع جماعتِه – يُجسِّدُ قيمَ المجتمعِ الكنديِّ القائمِ على العملِ الجماعيِّ والتوازنِ مع البيئةِ. يقولُ الكاتبُ الكنديُّ بيير بيرتون: “القندسُ علَّمَنا أنَّ البقاءَ ليس للقويِّ فقط، بل للأذكى الذي يبني حضارتَه دونَ أن يدمِّرَ عالمَه”.


9. أستراليا: الكنغرُ.. قفزةٌ نحوَ المستقبلِ

حين تُغلِقُ عينيكَ وتتخيلُ أستراليا، فأولُ ما يطلُّ عليك هو الكنغرُ: هذا الكائنُ العجيبُ الذي لا يوجدُ إلا في القارةِ المُنعزلةِ، والذي يحملُ صغيرَه في جيبٍ كأنَّه يُعلنُ أنَّ المستقبلَ يجبُ أن يكونَ محميًّا دائمًا. لكنَّ الرمزيةَ الأعمقَ تكمنُ في حركةِ الكنغرِ الفريدةِ: فهو لا يستطيعُ القفزَ للخلفِ، بل فقط للأمامِ، مما جعلَ الأستراليينَ يختارونَه رمزًا للتقدمِ والتفاؤلِ.

الكنغرُ أيضًا هو بطاقةُ هويةٍ أستراليةٍ في العالمِ: فشعارُ الخطوطِ الجويةِ الأستراليةِ يحملُ شكلَه، والسياحُ يبحثونَ عن تذكاراتِه، بل إنَّ بعضَ القبائلِ الأصليةِ كانتْ تعتبرُه “خالقَ الأرضِ” في أساطيرِها. الكنغرُ هنا ليس حيوانًا، بل هو “الآخرُ المختلفُ” الذي تُعرِّفُ أستراليا نفسَها من خلالِه.


10. اليابان: التانوكي.. ساحرُ الغاباتِ الذي يضحكُ من العالمِ

قد يبدو التانوكي – ذلكَ الكائنُ الشبيهُ بكلبِ الراكونِ – خيارًا غريبًا لرمزٍ وطنيٍّ في بلدٍ يعتمدُ رسميًّا زهرةَ الكريسانثيمومِ. لكنَّ التانوكي يختبئُ في كلِّ زاويةٍ من الثقافةِ الشعبيةِ اليابانيةِ: من تماثيلِه المنتشرةِ أمامَ المطاعمِ (كرمزٍ للجذبِ الحظِّ)، إلى ظهورِه في أفلامِ “ستوديو غيبلي” كشخصيةٍ كوميديةٍ تنتقدُ البشرَ بسخريةٍ.

في الأساطيرِ القديمةِ، كان التانوكي مخلوقًا مخيفًا يتحكَّمُ بالنارِ، لكنَّ تحوُّلَه إلى رمزٍ مرحٍ يعكسُ فلسفةَ اليابانيينَ في “تقبُّلِ التناقضاتِ”: فالحياةُ – كالتانوكي – يمكنُ أن تكونَ مُرعبةً ومضحكةً في الوقتِ ذاتِه. وكما كتبَ الروائيُّ هاروكي موراكامي: “نحنُ نضحكُ مع التانوكي لأنَّه يُذكِّرُنا بأنَّ الجديةَ المفرطةَ هي أسوأُ خطايا الإنسانِ”.


الخاتمة: الرموزُ.. كائناتٌ لا تموتُ

في النهايةِ، هذه الرموزُ ليستْ حيواناتٍ محنطةً في متاحفَ، بل كائناتٌ حيةٌ تتنفسُ بين أسطرِ السياسةِ والفنِّ والذاكرةِ. الدبُّ الروسيُّ ينهضُ اليومَ في خطاباتِ الحربِ الباردةِ الجديدةِ، والتنينُ الصينيُّ يحلقُ فوقَ مشاريعِ الحزامِ والطريقِ، والديكُ الفرنسيُّ يُصيحُ في وجهِ الشعبويينَ.

هذه الرموزُ تعلمنا أنَّ الهويةَ الوطنيةَ ليستْ شيئًا جامدًا، بل سرديةٌ قابلةٌ لإعادةِ الكتابةِ كلَّما تغيَّرَ الزمنُ. فمَن كانَ ليصدِّقَ أنَّ التانوكي – ذلكَ الغولُ الأسطوريُّ – سيصيرُ سفيرًا للثقافةِ اليابانيةِ في الأولمبيادِ؟ أو أنَّ القندسَ الكنديَّ سيكونُ رمزًا لحركاتِ البيئةِ العالميةِ؟

الرمزُ الوطنيُّ هو إذاً مرآةُ الشعبِ: تُريه ماضيه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى