الموساد بين الحقيقة والأسطورة: كشف الغموض عن أقوى أجهزة الاستخبارات

تأسّس جهاز الموساد رسميًا في 13 ديسمبر 1949 بقرار من رئيس الوزراء ديفيد بن غوريون. اسمه العبري الموساد (המוסד)، ويُختصر رسميًّا إلى «جهاز الاستخبارات والمهام الخاصة» (במודיעין ולתפקידים מיוחדים). الكلمة العبرية «الموساد» تعني حرفيًّا «المؤسّسة»، لكنها تطلق بالإنجليزية على «Institute for Intelligence and Special Operations». كان سابقًا مصطلحًا يستخدم لمركز سرّي في حركة الهاغاناه الصهيونية لتنظيم هجرة اليهود (موساد عالياه بت) عام 1937، ثم استُعِيد باسم الموساد في دولة إسرائيل لتوحيد العمل الاستخباراتي الخارجي.

ينسب الموساد مباشرةً إلى رئيس الوزراء ويخضع له، وهو واحد من أجهزة الاستخبارات الثلاثة الأساسية في إسرائيل إلى جانب جهاز الأمن الداخلي «الشاباك» والاستخبارات العسكرية «أمان». تحت شعار مأخوذ من سفر الأمثال العبري (« אין תחבולה פועלת בידו ותושיה ברב יועץ »)، يظهر شعار الموساد في أعلى هذا التقرير صورة شعار الجهاز: يُقرأ حوله بالعبرية «אין תחבולה פועלת בידו ותשועה ברוב יועץ»، وهو مبدأ مأخوذ من المزمور العبري 11:14 ويفسَّر بأن النجاح يكمن في التخطيط والمشورة.

باجهزة الدولة الإسرائيلية أولويّة عليا. فنظرًا لخبرته في جمع المعلومات وتنفيذ العمليات السرية خارج الحدود، كان بن غوريون قد رأى ضرورة تشكيل هيئة مركزية توحّد جهود الأجهزة، فتولّى الموساد تنسيق عمل أمان والشاباك ابتداءً من تأسيسه. وتُلخّص المراجع الأدوار التأسيسية المبكرة للموساد أن «بن غوريون وافق في 13 ديسمبر 1949 على تشكيل مؤسّسة لتجميع وتنسيق خدمات الاستخبارات والأمن» تحت اسم لاحق “الموساد”، وأُسند إليها رسميًّا مسؤولية العمل الاستخباراتي والعمليات السرية خارجيًّا منذ 8 فبراير 1951. ويُشير مصدر تاريخي إلى أن الغرض من إنشاء هذه الهيكلية كان تعزيز التعاون بين «الاستخبارات العسكرية (أمان)» و«الاستخبارات الداخلية (الشاباك)» و«الموساد» الجديد، ما يعكس طبيعة الظروف الأمنية المتوترة حينها بعد إعلان قيام الدولة واندلاع الحرب العربية-الإسرائيلية الأولى.

الأدوار في منظومة الأمن القومي

يلعب الموساد دورًا حاسمًا في منظومة الأمن القومي الإسرائيلية من خلال جمع المعلومات الاستخباراتية خارج الحدود وتنفيذ عمليات سرّية بتوجيهات عليا. تكمن مهمته الرئيسية في تثقيف القيادة السياسية عن الموقف العالمي وإعداد تحليلات استراتيجية للحكومات المعادية، إضافة إلى قيامه بعمليات covert مباشرة مثل التجسّس، الاختطاف، التخريب والاغتيالات ضد شخصيات يعتبرها تهديدًا لإسرائيل خارج أرضها. رسميًّا، يُكلّف الموساد بــ«جمع المعلومات بالدراسات الاستخبارية وتنفيذ العمليات السرية خارج حدود إسرائيل»، وهو يساهم أيضًا في إقامة علاقات سرية لحماية المصالح الأمنية (مثل المفاوضات غير المعلنة) والتقنيات والاستخبارات التكنولوجية.

بالإضافة إلى موسسه الرسميّات، يحظى الموساد بمهام سريّة خاصة غير معلنة. يشتهر الجهاز بنفوذه الواسع وشبكات العملاء (سَيانيم) المنتشرين في العالم، وقد كشفت تقارير إسرائيلية عن امتلاكه شركات وهمية في عدة دول كمقارّ نُفذت منها عمليات سرية. وقد استخدم الموساد في فترات سابقة خبراء تقنيين متخصّصين (مثل وحدة «كَشهَت» للتجسس الإلكتروني) لتطوير وسائل متقدمة للتجسّس السيبراني والتصنت على الاتصالات. وبالرغم من سرّية كثير من عمليّاته، تؤكد المصادر الرسمية والعلمية أن الموساد «يشرف عليه مكتب رئيس الوزراء بشكل مباشر» ويرسل تقاريره لأقسام الأمن القومي العليا.

الفروق مع الشاباك وأمان

يتميّز تنظيم الأجهزة الثلاثة الإسرائيلية بتقسيم واضح للأدوار:

  • الموساد (الاستخبارات الخارجية): مسؤول عن جمع المعلومات وتنفيذ المهام السرية خارج الأراضي الإسرائيلية. ينصبّ نشاطه على كل ما له علاقة بالأمن الخارجي لإسرائيل وحماية مصالحها خارج الحدود.
  • الشاباك (جهاز الأمن العام): جهاز الأمن الداخلي، يختص بقضايا الأمن الداخلي ومكافحة «الإرهاب» والاغتيالات في المدن الإسرائيلية والأراضي الفلسطينية المحتلة. يركز على المراقبة الأمنية وحماية الشخصيات المهمة ومكافحة التجسس داخل إسرائيل.
  • أمان (الاستخبارات العسكرية): فرع استخبارات الجيش الإسرائيلي، يُعنى بالتقييمات الاستراتيجية والمعلومات العسكرية. يعدّ المسؤول الأول عن جمع المعلومات عن تهديدات الجيوش والجبهات ويقدّم تحليلات سياسية وعسكرية للحكومة.

بهذا التنظيم، قلّص الموساد تركيزه على الداخل واستبعده من المهام الأمنية الشعبية الأخرى التي يتولاها الشاباك، كما خفّض دوره في عمليات التجسس داخل إسرائيل خلافًا لأمان. فمثلًا، بعد سنوات، نقلت تقارير إعلامية عن «تحويل الكثير من الصلاحيات في مواجهة تهريب السلاح من الشاباك إلى الموساد» في شؤون معينة. لكن عمومًا يبقى الاختصاص الخارجي منوطًا بالموساد وحده، ويمتاز بالتركيز على المهمات السرّية والخاصة التي لا تخضع لرقابة علنية سوى رئيس الوزراء.

أبرز العمليات خارج إسرائيل

حقق الموساد عشرات العمليات النوعية خلال تاريخه، بعضها أصبح أيقونيًا ورسم الصورة الذهنية للجهاز. من أشهرها:

  • اختطاف أدولف أيخمان (الأرجنتين 1960): خطة مشتركة بين الموساد والشاباك أدّت إلى إمساك النازي الألماني السابق «آيخمان» وتسليمه لإسرائيل. مثلت هذه العملية نقطة تحول في تاريخ الموساد وبداية سمعته العالمية في عمليات المطاردة السرية.
  • حملة الثأر لمذبحة ميونيخ (1972–1973): بعد هجوم «سبتمبر الأسود» على بعثة الرياضيين الإسرائيليين في أولمبياد ميونيخ 1972، أطلق الموساد حملة اغتيالات بحق خلية البعثة، اشتملت على تصفية عدد من المطلوبين فلسطينيين وعرب خارجياً. انتهت حملة اغتيال «القائد المخضرم» سعد الدين البشيري (أبو باشا) في النرويج 1973 بمآخذ كبيرة، حين قتل الموساد أبا باسل بالخطأ بمُلابسات أثارت فضيحة دبلوماسية.
  • عملية «رمح» وخاربي السفن (1969): شهدت فرار أسطول حربي فرنسي (سفن حربية وناقلات صواريخ) إلى إسرائيل قبل تسليمها للعراق، في عملية سرية سُرَّب أن الموساد لعب فيها دورًا رئيسيًا.
  • عملية «موسى» لإجلاء اليهود الإثيوبيين (1981–1985): نفذ الموساد (بالتعاون مع وكالة غوث اللاجئين اليهودية) عملية لوجستية ضخمة لإخراج آلاف اليهود من السودان وإيصالهم إلى إسرائيل عن طريق عمليات بحرية وجوية سرية.
  • اغتيالات قيادات فلسطينية: اشتملت ثمانينات القرن العشرين على اغتيال شخصيات فلسطينية بارزة (أبو جهاد 1988، أحمد ياسين 2004، وغيرهما)؛ تنفذها وحدات خاصة (مثل وحدة «كيدون») بالتعاون الأمني مع أجهزة أخرى.
  • الهجوم على الانفاق النووية السورية (2007): في عملية غير معلنة رسمياً، دمّر الموساد بتعاون مع أمان مفاعلًا سريًّا في دير الزور بسوريا (عملية Orchard) باستخدام طائرات وكاميرات تجسس لتحديد الهدف بدقة.
  • اغتيال علماء نوويين إيرانيين (2007–2020): شملت سلسلة اغتيالات سرية لعلماء كانوا جزءًا من برنامج إيران النووي، أبرزها قتل العالم محسن فخري زادة في نوفمبر 2020 عبر بندقية آلية عن بعد مزوّدة بالذكاء الاصطناعي. نشرت صحف غربية تفاصيل العملية (باسْتِناد إلى تحقيقات «نيويورك تايمز»)، التي تضمنت جهازًا آلياً يعمل بالأقمار الصناعية لتصفية العالم دون أي عملاء حاضرون على الأرض.
  • اغتيال إسماعيل هنية وقادة حزب الله (2023–2024): نُسب للموساد (دون إعلان رسمي) دور في اغتيال قادة حماس (إسماعيل هنية في طهران يوليو 2024) وقيادات حزب الله اللبنانية (فؤاد شكر وحسن لباك)، مما يؤكد استمرار نشاط الموساد في الأزمات الإقليمية الحالية.
  • عمليات اختراق إلكتروني وسرقة وثائق: يقود الموساد وحدات تقنية عملت على اختراق أنظمة إلكترونية معادية وسرقة معلومات استراتيجية (مثل سرقة أرشيف نووي إيراني وملفات دعم حزب الله)، واستخدام برمجيات خبيثة ضد برامج حساسة (نمطيًّا ما يُنسَب إلى «عملية ستوكسنت» المتطورة).

هذه القائمة ليست شاملة، لكنها تُبرز تنوُّع مهام الموساد وخبرته في عدة ميادين (الاستخبارات التقليدية والسيبرانية)، بما في ذلك عمليات فدائية، عمليات كسب مواهب (Recruiting) ومحاولة استباق تهديدات عبر كل أشكال «الأمن القومي الخارجي».

التسريبات والفضائح المرتبطة بالموساد

طالما كان الموساد محاطًا بالسرية، لكن عبر العقود ظهرت بعض الفضائح والتسريبات التي لفتت الأنظار. ومن الأمثلة المعروفة:

  • فضيحة ليلهامر (1973): في مرحلة الانتقام لمذبحة ميونيخ، قتل الموساد في ليلهامر بالنرويج العميل اللبناني أحمد بوشيقي (واعتُقد أنه علي حسن سلامة)، لكن إسرائيل اعترفت لاحقًا بأن الضحية مخطئ. واعتبرت دوليًا حاتم قضية مروعة أدت إلى اعتقال عملاء الموساد وقتل مصداقيته مؤقتًا.
  • فشل عملية عمان 1997: حاول الموساد اغتيال خالد مشعل (قائد حماس) في الأردن عن طريق تسميمه، لكن القبض على العملاء تسبب بتسوية دبلوماسية: أُجبرت إسرائيل على الكشف عن مضاد السم ومجموعة كبيرة من الأسرى لقاء الإفراج عن مشعل.
  • تسريبات الحرب والسياسة: في أكتوبر 2023 وبعد هجوم 7 أكتوبر على إسرائيل، برزت انتقادات حادة بأن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية (بما فيها الموساد) أخفقت في كشف الهجوم. وصف محللون ذلك بأن «على إسرائيل تعويض الكثير بعد هذا الفشل». إذ يرى خبراء مثل ماثيو ليفيت (أستاذ باحث بمعهد واشنطن للأمن) أن الحادثة أظهرت جولات ضعف مؤقتة للحكومة والجيش، رغم تقديرهم لمكانة الأجهزة الاستخباراتية تاريخيًّا.
  • فضيحة إيطاليا (2024): كشفت تقارير إعلامية إيطالية (استنادًا إلى صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية) تورّطًا مزعومًا للموساد في «شبكة تجسّس» سرية بإيطاليا تمسّ مسؤولي دولة بارزين (بما فيهم رئيسة الوزراء جورجا ميلوني). ووفق التحقيقات، يعمل فيها عناصر سابقون بالأمن الإيطالي بالاشتراك مع عملاء إسرائيليين لجمع معلومات سرية عن قادة إيطاليين وربما ابتزازهم. أثارت هذه الفضيحة غضب روما، حيث وصفتها رئيسة الوزراء بأنها تهديد للديمقراطية.
  • الجدل القانوني الدولي: كثيرًا ما يُنتقد الموساد دوليًّا لانتهاكاته المفترضة؛ فقد أدانت منظمات حقوقية استخدامه للعنف خارج نطاق القانون (مثل تفجير أجهزة اتصال مدنية استخدمتها «حزب الله»، وهو ما وصفت اللجنةُ الأممية لحقوق الإنسان بـ«انتهاكات مرعبة للقانون الدولي»). وبالإضافة إلى ذلك، كانت شبكة «كيبورد الفلسطيني» (Media Walla) كشفت مساهمات فنية خطرة في مؤامرات التجسس، لكن إسرائيل عادةً لا تعترف بعملياتها رسمياً.

على الصعيد الداخلي، ظهرت إشارات إلى تباينات خفية داخل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية. فقد تحدثت مصادر عن «معركة خفية خلف الكواليس» بين الموساد والشاباك بعد تتابع الإخفاقات الاستخباراتية في غزة، نتيجة للاختلال في توزيع الصلاحيات ورفض كل جهاز توصيات الآخر. رغم أن هذه النقاشات تظل وسائلاً، فإنها تظهر الضغط الهائل على الموساد للحفاظ على صدارته وتفوقه amid المنافسة واختلاف الاختصاصات.

التقنيات الحديثة في التجسس

للموساد تاريخ طويل في تبني أحدث وسائل التجسس وتطويرها لصالح عملياته. يجمع الجهاز بين الخبرة التقليدية والاعتماد على التكنولوجيا المتطورة:

  • الأسلحة والأنظمة الآلية: أبرز مثال حديث هو استخدام بندقية آلية عن بُعد مدعومة بالذكاء الاصطناعي لاغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زادة. فقد أوردت «نيويورك تايمز» أن فريقًا إسرائيليًّا دمج بندقية خفيفة (FN MAG) مع منصة روبوتية، تُمكّنه من استهداف الهدف عن بعد بدقة فائقة دون أي عميل على الأرض.
  • الحرب الإلكترونية والبرمجيات الخبيثة: نفّذ الموساد عمليات اختراق وتنصّت عالية التعقيد، إذ نجح في زرع برمجيات خبيثة في أنظمة نووية ومعملية لخصوم (مثل أنظمة برنامج إيران النووي). كما ساهم الجهاز –بالاشتراك مع أجهزة أخرى– في عمليات «stuxnet» لشلّ أجهزة الطرد المركزي الإيرانية.
  • التجسس عبر الإنترنت وشبكات التواصل: يوظِّف الموساد تقنيات جمع المعلومات عن بعد، بما في ذلك التنصت على الاتصالات المشفرة واختراق قواعد البيانات. وقد تبادل الموساد معلوماته مع حلفائه (مثل وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA) لزيادة تغطيته التقنية. وإلى ذلك، تتيح أبحاثه التقنية دقة عالية في تحليل البيانات الكبيرة واستخدام الذكاء الاصطناعي في استجلاء الأنماط الخفية والخطر القادم.
  • استخدام طائرات بدون طيار وأقمار صناعية: وكشف موقع “الغارديان” أن الموساد بنى (خلف الكواليس) «قاعدة طائرات مسيّرة» قرب طهران، سمح بإطلاق صواريخ لتدمير بطاريات الدفاع الإيراني. وقد أظهرت لقطات صينية أنظمة إستشعار وتجسّس متطورة يستعملها الموساد لاستطلاع أهدافه من بعيد.
  • وسائل الاتصالات اللاسلكية والتجسسية غير المباشرة: استخدم الموساد سابقًا أجهزة اتصال منزوعة الروح (كاتمات صوت) وكاميرات خفية عالية الدقة للتسلّل إلى مجتمعات معادية والتقاط المعلومات. وفي السنوات الأخيرة، برز استخدام «أجهزة اتصال مجهّزة بمتفجرات» (صفارات هواتف لاسلكية مسمّمة) لتوجيه ضربات خاطفة (كما حصل مع «حزب الله» في 2024).

بشكل عام، لا يقتصر عمل الموساد على العُملاء البشريين فقط، بل يتوسّع نطاق نشاطه التقني ليتضمّن مجالات الذكاء الاصطناعي، السيبرانية، والطائرات المسيرة، الأمر الذي يكسبه ميزة استراتيجية في عالم الاستخبارات المتقدّم. كما يدعم الجهاز شركات تقنية إسرائيلية متخصصة (نحو «صندوق استثمار مخاطر» تموله إسرائيل) لتطوير أدوات جديدة في مجال الأمن والقرصنة الاستخباراتية.

تقييمه وتصنيفه عالميًا

على الصعيد الدولي يُصنّف الموساد ضمن أجهزة الاستخبارات الرائدة عالميًّا. ففي تقييمات لبعض المحللين لُقّب الموساد بأنه «أحد أقوى أجهزة الاستخبارات في العالم» بسبب كفاءته وبراعته في المهمات المتفرّدة. ففي دراسة كتبتها وكالة نازاخالد (Kazinform) التقى فيها مع خبراء أمثال رونن بيرغمان، ذُكر أن الموساد يتميز بقدرته على مزج التقنيات المتطورة مع شبكة عملاء عميقة الانتشار، ما جعله «اللاعب المحوري في الديناميات الإقليمية في الشرق الأوسط». وقد احتلّت إسرائيل مراتب متقدمة دائمًا في قوائم أجهزة الاستخبارات، تحتلها أحيانًا بعد وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA)، التي تعتبر الأكبر ميزانيةً وعددًا من العاملين في العالم، ثم الموساد وكميّة صغيرة من نظائر مثل MI6 البريطانية وجهاز أمن الدولة الروسي (FSB). ويُرجع محللون ذلك إلى أن ميزانية الموساد (~3 مليارات دولار سنويًّا وفق تقديرات غير رسمية) أصغر بكثير من CIA، لكنه يتميّز بتركيزه على المهمات الخارجية الحساسّة وخبرته الطويلة.

يقول محللون إسرائيليون أن نسب نجاح الموساد عالية في بيئته الإقليمية: فقد أنجز بعثات خطيرة (اختطاف النازي أيخمان، تحذير 1973، إنقاذ رهائن أوغندا) بينما يؤكدون أيضًا وجود إخفاقات كبرى. فكما أشار مراسل الغارديان جيسون بيرك، «تاريخ الموساد ملطّخ بالعديد من الإخفاقات التي أحرجت إسرائيل وأزعجت حلفاءها». وعلى الرغم من ذلك، لا تزال أجهزة الدول الكبرى (CIA وMI6 وFSB وغيرها) تعقد مقارنات مستمرة مع أساليب ومهارات الموساد. وقد قال خبير الاستخبارات الدكتور لوك جونسون إن قوة السي آي إيه تكمن في حجمها التكنولوجي وشبكاتها العالمية، في حين يشيد رونن بيرغمان بنجاح موساد في الجمع بين «التكنولوجيا وشبكة عملاء مغروسة بعمق في الدول المعادية»، ما يجعل خدمته لا تقل أهمية عن نظرائها الكبرى على مستوى المعلومات الحربية والدبلوماسية.

تحليلات الخبراء: نجاحات مقابل إخفاقات

تتسم منظومات الأمن الإسرائيلية عامةً بسجل مختلط من النجاحات والإخفاقات، ويشمل ذلك الموساد. يرى خبراء إسرائيليون وأجانب أن للموساد جانبًا من الجدارة الميدانية الكبيرة وآخر من العوائق التكتيكية. فبحسب جيسون بيرك، افتكّ الموساد انتصارات مذهلة عبر سنوات (كالاستخبارات النوعية المتمكنة)، ولكنه «حافل أيضًا بسجل متقلب» به إخفاقات أحرجته دوليًا. على سبيل المثال، أشادت مصادر إسرائيلية بأدوار الموساد في الكشف عن برامج معادية وتصفية قيادات معادية، بينما انتقدتها عملية ميونيخ (حيث قُتل أناس أبرياء بالخطأ في حملة الانتقام)، وفشلها في اغتيال خالد مشعل بالأردن الذي أضر بعلاقات المملكة الأردنية.

ويوضح ماثيو ليفيت أن الأحداث الأخيرة (خاصة هجوم 7 أكتوبر 2023) «أظهرت أن على أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية بما فيها الموساد تعويض الكثير»، دون أن يشكك بإمكاناتها الأساسية. كذلك ينقل يوسي ألفر (عميل سابق بالموساد) أن الموساد في زمنه كان يعمل بشكل أكثر هدوءًا ولم يكن معروفًا حتى للعائلات، لكن مع تطور وسائل الإعلام صار للجهاز «موقع إلكتروني» رسمي وظهرت صور قياداته، مما يبرز التحوّل من السرّ المطبق إلى مرحلة من الانفتاح التدريجي. وأشاد الخبراء أحيانًا بإسهامات الموساد في بناء تحالفات غير معلنة (مثل تهيئة «الأكراد أعداء أعداء إسرائيل»)، بينما انتقدوا دعمه مراكز قوة غير مستقرة (كالأحزاب المارونية في لبنان)، ما أدى إلى اندلاع فظائع مثل حرب لبنان 1982.

عامة، يربط المحللون نجاحات الموساد بالقدرة على التخطيط الدقيق واستخدام التقنيات المتقدمة، ويرون أن الإخفاقات تنجم غالبًا عن تعقيدات بيئات الصراع وعدم التنبّه لبعض المتغيرات المحلية. وتجمعت وجهات نظر تشير إلى أن الجهاز قد اختبر بشراسة استخباراتية عالية الكفاءة ولكنه ليس بمنأى عن الأخطاء البشرية والتقديرية، وأن تقييمه يجب أن يأخذ بعين الاعتبار كليهما.

تأثير الموساد على السياسات الخارجية الإسرائيلية

امتدّ تأثير الموساد إلى السياسة الخارجية الإسرائيلية بطرق مباشرة وغير مباشرة. فقد لعب الجهاز أدوارًا سرية في تهيئة الأجواء الدبلوماسية لاتفاقيات سلام وقضايا استراتيجية. فعلى سبيل المثال، كشف الموساد معلومات سرية ساعدت في إنضاج تفاهمات سلام مع مصر (1978) والأردن (1994) بالتنسيق مع جهات أخرى. كما تدخل الموساد لدعم حلفاء إسرائيل الإقليميين أو اضعاف أعدائها: فقد شيّد علاقات خفية مع الأكراد في العراق وسوريا ومع قادة مسيحيين في السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى، وساهم –ولو بصورة خفية– في صفقات مثل توريد أسلحة من إسرائيل إلى إيران في ثمانينيات القرن الماضي (فضيحة «إيران–كونترا»)، بما أغاظ بعض المراقبين.

على النقيض من ذلك، ساهمت بعض عمليات الموساد في تأجيج التوترات الخارجية. فقد يرى الفلسطينيون واللبنانيون أن تصفية إسرائيل لشخصيات فلسطينية داخل دول خارجية أثّرت سلبًا على العلاقات مع تلك الدول. كما نبهت انتهاكات الموساد الدولية بعض حكومات الغرب إلى عدم الثقة بإسرائيل في بعض الأحيان. ويقول محللون إن الموساد يلتف على القيود القانونية ما أمكن لحماية الأمن القومي، لكن ذلك يضع إسرائيل في مواقف دبلوماسية صعبة أمام المجتمع الدولي. على الصعيد المباشر، تعتمد قادة إسرائيل على معلومات الموساد في قراراتها الخارجية (مثل تقييمات قدرتها الصاروخية أو خطط الأعداء)، ويرى الخبراء أنه من دون معلومات الموساد الخارجية الدقيقة، لن تكون سياسات الدفاع والردع الإسرائيلية ممكِنة بالصورة نفسها.

باختصار، يُستَشهد بالموساد في كثير من التجارب السياسية الخارجية: كعامل سريّ دعّم إنجازات دبلوماسية (كما في السلام مع مصر والأردن)، وكقوة استخباراتية أسهمت في صنع القرار الحربي (كما أسهمت إخوته في كشف مفاجأة حرب 1973)، وكحامل ائتمان استخباري قد يرتفع أو ينخفض بحسب نجاحات الجهاز الأخيرة. ومع التطورات المتلاحقة في تقنيات الاستخبارات العالمية والتحديات الإقليمية، يبقى الموساد شريكًا رئيسًا في صياغة السياسة الخارجية الإسرائيلية وانتشار نفوذها في العالم، سواء من وراء الكواليس أو عبر شبكات معقّدة من التحالفات السرية.

المصادر: استند هذا التحليل إلى مصادر عربية وغربية متعددة حول جهاز الموساد وتاريخه، منها تقارير إخبارية ومواقع مختصة (الجزيرة الوثائقية، يديعوت أحرونوت عبر ميدل إيست مونيتور، الواشنطن إكزامينر، The Guardian) بالإضافة إلى ما نشره خبراء مثل رونن بيرغمان ويوسي ألفر. تم توثيق الأحداث التاريخية بترتيب زمني دقيق وبالاستناد إلى مصادر مستقلة حيث توافرت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى