صناعة الكذب: كيف أصبح الخداع أسلوب حياة في السياسة والإعلام والتاريخ؟

الكذب سلوك بشري قديم يجد بعض الباحثين له تبريرات بيولوجية واجتماعية. فقد أظهرت دراساتٌ عصبية أن العقل الإنساني «يتكيف مع الكذب» بحيث تصبح الأكاذيب أسهل مع التكرار؛ فكما خلُصت أبحاثٌ حديثة، إن الاستجابة العاطفية للأكاذيب تتلاشى تدريجيًا عند المُدمن على الكذب، ويعمل «دماغ الكاذب بشكل مختلف عن الآخرين» بحيث يصبح ماهرًا في هذه المهمة. كما يشير خبراء علم النفس إلى أن الكذاب المحترف يحتاج إلى قدرات خاصة: التفكير الاستراتيجي وإدراك احتياجات الآخرين وإدارة عواطفه بكفاءة. حتى فلاسفة اليونان مثل أفلاطون أقروا مفهوماً يُسمّى «الكذبة النبيلة» التي تنشرها النخبة بهدف الحفاظ على الانسجام الاجتماعي. وبشكل عام، يبدو أن الكذب ملازم للطبيعة البشرية بدرجات متفاوتة، كما لو كانت البصمة البشرية أنها قد تكذب أحيانًا بحثًا عن المصلحة أو للحماية أو للدور الاجتماعي.

الأكاذيب التاريخية الشهيرة

من أشهر الأكاذيب الحربية حادثة خليج تونكين عام 1964. ففي أغسطس 1964 ادّعت الإدارة الأمريكية بهجوم نوّابه الشمال في خليج تونكين شمال فيتنام، وهو ما تبين لاحقًا أنه مُفتعل. اعترف وزير الدفاع الأمريكي آنذاك روبرت ماكنمارا بأن الهجوم الثاني لم يحدث وأن واشنطن صنعت الرواية لتبرير تصعيد حرب فيتنام. مثال آخر حديث هو غزو العراق 2003، إذ اعتمدت الحكومة الأمريكية ذريعة وجود «أسلحة دمار شامل» لإسقاط صدام حسين، قبل أن تكشف لاحقًا مستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس أن الهدف الحقيقي كان الإطاحة به بعيدًا عن دعاوى نشر الديمقراطية.
كما لا تخلو كتب التاريخ من أكاذيب منظّمة؛ فالحرب العالمية الثانية انطلقت رسميًا بهجوم مصطنع (واقعة غلايفتز) اختلقه النازيون كحجة لغزو بولندا، ويُروى أن كاتبًا بريطانيًا في القرن السابع عشر أسس «مؤامرة الآباء الكاثوليك» على أكاذيب مفبركة حرضت الجمهور على اضطهاد الكاثوليك، ليتبين بعد سنوات زيفها بالكامل. هذه الأمثلة وغيرها تظهر كيف استُخدم الكذب في التاريخ كوسيلة لتشكيل روايات قومية أو تبرير حروب ومظالم، فيتغيّر مسار الأحداث بإرادة صناع الكذبات.

الأكاذيب الإعلامية

في العصر الحديث لا يقتصر الكذب على الأفراد بل يمتد إلى الآلات الإعلامية والدعاية. فقد اتهمت مصادر عربية مثل الجزيرة شبكة CNN وغيرها بترويج «أخبار كاذبة» خلال غزو العراق عام 2003، من ادعاء موت زعماء عراقيين إلى ادعاءات عن مصانع أسلحة دمار شامل، وسرعان ما اضطرت وكالات الأنباء إلى نفي كثير منها في ساعات معدودة. ويلاحظ المراقبون أيضًا أن الحرب الباردة كانت إلى حد كبير «حرب معلومات»؛ إذ يرى بعضهم أن الولايات المتحدة انتصرت فيها عبر آلة الدعاية دون القتال المباشر. ولا يقتصر التلاعب على الإعلام فقط بل يشمل المناهج الدراسية، حيث وجدت دراسات أن كتب التاريخ في ألمانيا واليابان مثلاً ركّزت على الزمن الحاضر بما يعكس النظم السياسية آنذاك، كذلك تضخمت الروايات الأمريكية والإنجليزية التربوية في منتصف القرن العشرين بما يخدم أجندات الحروب الباردة والإمبراطوريات. باختصار، تُعد وسائل الإعلام الحديثة وسيلة فعّالة لكسب الرأي العام وإخفاء الحقائق أو تحريفها.

الأكاذيب الإعلانية

تعد الإعلانات مثالًا آخر على التضليل المنهجي. ففي أسواق القرن العشرين روجت الشركات لمنتجاتها بعبارات طبية وكاذبة، فقد اكتسبت حملات السجائر شهرة ببيانها «أكثر الأطباء يدخنون ماركة (Camel) أكثر من أي سجائر أخرى». وحتّى اليوم تستمر الإعلانات ببث وعود مبالغ فيها للمنتجات، من أدوات تخفيف الوزن إلى مستحضرات التجميل، دون أدلة واقعية. وقد أدت بعض الحملات إلى فضائح، كما حدث عندما نشر إعلان لشركة Dove عام 2017 مقطعا يوهم بتغير لون جلد امرأة سوداء إلى بيضاء كدعاية، فأثار غضباً واسعاً واضطر المعلنون إلى الاعتذار. وبرغم الإجراءات التنظيمية، تظل المساحات العامة (كميادين العرض والإعلانات في المدن الكبرى) محملة بصور لمنتجات تُرسم بألوان زاهية مغرية، لكنها كثيرًا ما تبقى بعيدًا عن الحقيقة بالمضمون.

أكاذيب السياسيين وصناع القرار

في النظم الديمقراطية يتعامل السياسيون مع الكذب بحذر. كما يشرح المراقب كريس باتن عن الانتخابات البريطانية، «يغتنم معظم الساسة الفرصة لتفادي الكذب الصريح… لكنهم يبالغون دائمًا في تقدير ما يمكنهم تقديمه». يحدث أن يقدم المرشحون وعودًا انتخابية كبيرة قد تصطدم بالواقع لاحقًا، في حين يتهرب البعض من الإجابة الصريحة على أسئلة محرجة. والمفارقة أن ناخبين كثيرين يدركون هذه الحقيقة ويراقبون السياسي الكذاب لكنهم أحيانًا يقبلونها كتضحية ضرورية لتحقيق مصلحة يرونها. وفي العموم، يبدو أن السياسيين يميلون إلى توظيف الكذب أو «تحوير الحقائق» عند الحاجة، سواء في خطاب انتخابي أو في سياسات حكومية؛ فتظهر أشكال التدليس في تقارير رسمية أو تصريحات في مؤتمرات صحفية، فيما يتحمّل الرأي العام العبء الأخلاقي للتفريق بين الحقيقة والادعاء.

البُنية الأخلاقية للكذب

يتباين الإطار الأخلاقي للكذب باختلاف المدارس الفلسفية والدينية. في الأخلاق الكانطية، يُعدّ الكذب فعلًا مرفوضًا مطلقًا لأنه ينتهك الكرامة الإنسانية، بينما في التوجهات النفعية قد يُنظر إليه مباحًا إذا أسفر عن خير أكبر. وعبر التراث الديني تبنّى الإسلام مثلاً قاعدةً تقضي بتحريم الكذب إلا لحاجة مبررة؛ فقد ورد في سنة النبي ﷺ أنه «لا يُعتبر كذابًا من يصلح بين الناس فينمي خيرًا أو يقول خيرًا»، وتحدد الحديث ثلاث حالات لرخص الكذب: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته (وفي العائلة). بمعنى آخر، يُستثنى من التحريم الكذب الذي يحقق مصلحة حقيقية دون إيذاء الآخرين، مثل حماية حياة الأبرياء أو فضّ نزاع عائلي. أما ما عدا ذلك فيُعتبر كارثة أخلاقية توهن الثقة الاجتماعية. بهذا، تظل حدود قبول الكذب موضوعًا جدليًا: ففي كل مجتمع يتم تقييمه على ضوء قيمه، لكن يتفق الجميع على أن الضرر الأكبر يقع عندما يفقد الناس الثقة في صِدق الحاكم أو المؤسسات.

أمثلة من ثقافات وحقب مختلفة

يكاد لا يخلو عصر أو شعب من قصص عن الأكاذيب التاريخية. فعلى سبيل المثال، أظهرت دراسات مطلع القرن الحادي والعشرين أن كتب التاريخ في ألمانيا واليابان تحدثت في كثير من الأحيان عما يحدث في زمان المؤلفين أكثر مما تخبرنا عن الماضي، مما يؤكد إعادة صياغة الحقائق لتتماشى مع المعايير السياسية الحاكمة. وفي الغرب أيضًا انتشرت الأساطير الوطنية والكاذبة عند إقامة أنظمة جديدة أو بعد الحروب، إذ يقوم القادة الجدد بتمجيد أمجاد الأمة أحيانًا على حساب الحقيقة، كما حدث في صفحتي نصر ألمانيا النازية وروسيا السوفييتية. ولا يختلف الوضع في الشرق، فقد سُمّيت الولايات المتحدة بـ«إمبراطورية الأكاذيب» على لسان مسؤول صيني حديثًا في سياق الصراع الإعلامي بين الدول. وعلى الصعيد الشعبي، توارثت الثقافات حول العالم حكايات محكية تتجاوز الحقيقة؛ من إغراء الحصان الطروادي في اليونان القديمة إلى روايات الأبطال الخيالية في العصور الوسطى والحالية. بعبارة أخرى، لا يمكن تصور مجتمع بشري خالٍ تمامًا من الكذب؛ بل إن كتب الماضي والأساطير المعاصرة تزدحم بأمثلة استُخدم فيها الكذب لبناء هوية جماعية أو هدف سياسي.

خاتمة

تبقى التساؤلات مفتوحة: هل يعدّ الكذب شرًا يجب مكافحته قطعًا، أم حتّى ضرورة اجتماعية أحيانًا تُسهم في تماسك الجماعة؟ وهل يمكن أن تزدهر مجتمعات بشريّة تُلزم أعضاؤها بالصدق المطلق حتى في أخطر اللحظات؟ قد نميل إلى الاعتقاد بأن الصدق فضيلة راشدة، لكن التاريخ يذكرنا بأن البشر عمدوا دومًا إلى الكذب لحماية أنفسهم أو مجتمعاتهم أو لتعزيز سلطتهم. وربما تكون الإجابة في التوازن؛ عالم بلا أي كذب يبدو خياليًا على الأقل في المدى القصير، لكن عالمًا يغلب عليه الصدق بكل تفاصيله هو الهدف الأخلاقي الأرفع. يبقى علينا كمجتمع أن نحاول ترسيخ قيم الصدق والشفافية مع تقبل أن الفجوة بين الحقيقة والمصلحة ستظل محل جدل مستمر.

المصادر: يتجلى ما سبق في تقارير ومصادر متنوعة: الدراسات العصبية وعلم النفس، والتاريخ الحديث، والتحليلات الإعلامية، والأبحاث الإسلامية والأخلاقية، وغيرها من الأعمال الإعلامية والموسوعية ذات المصداقية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى