
حين انطفأ المصباح: ثلاثون عامًا من وأد الفكر العربي
في محتوى هذا المقال
- 1 مقدمة: خيانة العقل في وضح النهار
- 2 أول الضربات: غزو العراق وسقوط المعنى (1990–2003)
- 3 لحظة العار: 11 سبتمبر والتقوقع داخل الذات
- 4 صعود شيوخ الشاشة: حين تحول الدين إلى مادة ترفيهية
- 5 الربيع العربي: ثورة بلا رأس ولا كتاب
- 6 داعش: ذروة المأساة الفكرية
- 7 فلسطين… من قضية وجودية إلى شعار باهت
- 8 حين يصبح التفكير في الدين تهمة أخطر من الإلحاد
- 9 الغرب… حيث يُقدَّر المفكر ولو اختلف
- 10 هل من أمل؟
مقدمة: خيانة العقل في وضح النهار
في زمن كثرت فيه الأصوات وقلّ فيه التفكير، لا يسعنا سوى أن نُصغي لصرخة العقل العربي، المكمّم منذ ثلاثة عقود، يتلوّى تحت ركام الأحداث الكبرى، وبين أيدي خطباء وشيوخ ومعلّقين، اغتالوا فيه آخر أنفاس النقد، وأعلنوا قيامة الجهل.
لم يكن ما حدث فجائيًا، بل كان مسلسلًا طويلًا من الانحدار، بدأت أولى حلقاته مع غزو العراق للكويت عام 1990، وبلغت ذروته مع صعود داعش، واستمر حتى يومنا هذا، حيث أصبح التفكير في الدين أخطر من الكفر به.
أول الضربات: غزو العراق وسقوط المعنى (1990–2003)
في مطلع التسعينيات، اهتزّت الجغرافيا السياسية للعالم العربي تحت وقع الغزو العراقي للكويت، ثم التدخل الأمريكي. لم يكن هذا حدثًا عسكريًا فقط، بل لحظة ثقافية فارقة. سقطت الأقنعة عن الأنظمة، وتفككت الأوهام القومية، وانكشفت هشاشة الفكر السياسي العربي.
ثم جاءت نكبة 2003، حين سقطت بغداد تحت دبابات الغزاة، لا لأنها ضعيفة عسكريًا فقط، بل لأنها كانت خاوية ثقافيًا وفكريًا. فحين غابت الحكمة، لم يصمد السلاح. وحين انتهت المدرسة العقلانية، دخل شيوخ الفضائيات بفتاوى الخضوع، يطمئنون الناس في زمن الخراب.
لحظة العار: 11 سبتمبر والتقوقع داخل الذات
أحداث 11 سبتمبر 2001 كانت زلزالًا أخلاقيًا وفكريًا. لم يسأل العالم العربي: “لماذا يفجّر أبناؤنا أنفسهم؟”، بل انقسم بين منكرٍ ومبرّر. التفكير غاب، والتحليل استُبدل بالتكبير، والنقد أصبح مؤامرة. تلك اللحظة أسست لجمهورية الخوف، حيث صار كل من يسائل النص الديني، يُصنّف خائنًا، أو عميلاً للغرب.
صعود شيوخ الشاشة: حين تحول الدين إلى مادة ترفيهية
من رحم الأزمة، وُلدت مرحلة جديدة: مرحلة الشيوخ النجوم. صعد أمثال محمد حسان، الحويني، العريفي، عمرو خالد… يتحدثون في كل شيء: من الفقه إلى الاقتصاد، من السياسة إلى العلاقات الزوجية.
لكنهم لم يقدموا مشروعًا فكريًا، بل خطابًا مهدئًا، شعبويًا، يُكرّس الطاعة، ويقدّس الجمود. في المقابل، تراجع دور المفكر الحقيقي: الجابري، أبو زيد، طرابيشي، حسن حنفي… إما هُمِّشوا، أو شُوّهوا، أو ماتوا في صمت.
الربيع العربي: ثورة بلا رأس ولا كتاب
حين جاء الربيع العربي عام 2011، ظن البعض أن العقل عاد. لكن الحناجر سبقت الكتب، والثوار لم يكونوا محصنين ضد الاستبداد الديني. تحوّل الحلم بسرعة إلى كابوس، حين اختطفت الجماعات الإسلامية الثورة، ورفعت شعار “الإسلام هو الحل” دون أن تقدّم أي مشروع عقلاني حداثي.
فُرض من جديد الصمت على الفلاسفة، وسُمعت الفتاوى أكثر من الدساتير، وضاعت فرصة إعادة بناء الوعي الجمعي.
داعش: ذروة المأساة الفكرية
ما بين 2014 و2019، لم تكن داعش مجرد تنظيم، بل أعلى تجلٍّ للفكر المظلم. كل ما فعله التنظيم كان تطبيقًا متطرفًا لنصوص قديمة، دون أي محاولة للسؤال أو التأويل.
لكن الكارثة الأعمق أن بعض أبناء المجتمعات العربية تعاطفوا سرًا، ووجدوها “صورة نقية للإسلام”، لأنهم لم يتعلّموا كيف يفكّرون، بل كيف يطيعون.
فلسطين… من قضية وجودية إلى شعار باهت
في خضم كل هذه الزلازل، ضاعت القضية الفلسطينية في فوضى الشعارات. تحولت من مركز نضال عربي إلى ديكور لغوي، يُستعمل فقط في الخطابات العاطفية، دون أي ربط بالقيم الحقيقية للتحرر.
لم نعد نقرأ إدوارد سعيد أو كنفاني، بل اكتفينا بلعن إسرائيل، دون فهم، دون مشروع، دون فكر.
حين يصبح التفكير في الدين تهمة أخطر من الإلحاد
لا يحتاج المفكر العربي اليوم أن يُنكر الله ليُكفَّر، يكفيه فقط أن يُعيد قراءة النص.
- ألفة يوسف، قاربت النص القرآني بعين حداثية، فوصموها بالانحراف.
- يوسف الصديق، قرأ القرآن كمنتج ثقافي وتاريخي، لا ككلمات منزّلة مغلقة، فاتهموه بالاستشراق.
- محمد الطالبي، حاول أن يُعيد للمسلم حقه في أن يفكّر، فاتهموه بالخروج عن الملّة.
كل هؤلاء لم يأتوا من خارج الدين، بل من قلبه. لكنهم كُفروا لأنهم سألوا.
الغرب… حيث يُقدَّر المفكر ولو اختلف
في الوقت الذي أُهين فيه المفكر العربي، ظل المفكر الغربي في صدارة النقاش العام:
- ميشيل فوكو، رغم تمرّده، ظل مرجعًا.
- يورغن هابرماس، يُستشار في السياسات العامة.
- تشومسكي، ناقد الدولة الأمريكية الأبرز، لكنه محل احترام.
الغرب لا يُقصي مفكّريه المختلفين، بل يُصغي إليهم. أما نحن، فنرجمهم.
هل من أمل؟
نعم، رغم كل شيء. لا تزال هناك جيوب مقاومة فكرية:
شباب يقرؤون بودريار بعد صلاة الفجر، ويكتبون مقالات عن ابن رشد وهم في المقاهي الشعبية.
لكن هذه الجيوب تحتاج إلى رئة ثقافية تتنفس بها، ومنابر لا تخاف من السؤال، ومجتمعات تقدّس العقل أكثر من الطاعة.
لن تقوم لنا قائمة ما لم نُعد للفكر مكانته، وللفيلسوف حقه، وللسؤال حريته.







