العندليب الأسمر: سيرة حياة عبد الحليم حافظ.. من قرى الشرقية إلى أسطورة الخلود

البداية.. طفل القدر الذي رقص على أوتار الألم

وُلدَ عبد الحليم علي شبانة في قريةِ الحلواتِ بمحافظةِ الشرقيةِ يومَ 21 يونيو 1929، كأنَّ القدرَ اختارَ له اسمًا يُنذرُ بالحُزنِ: “الحليم”، ففقدَ أمَّه بعد أيامٍ من ولادتِها، وأباهُ قبل أن يُتمَّ عامَه الأول، ليعيشَ يتيمًا في كنفِ خالِه، يلعبُ مع أقرانِه في ترعِ القريةِ، حيثُ التقطَ مرضَ البلهارسيا الذي صارَ شبحًا يطارده حتى النهاية.

لم تكنْ طفولتُه سوى نوتاتٍ مُتقطعةٍ على سلمِ المعاناة، لكنَّ الموسيقى كانت ملاذَه. التحقَ بمعهدِ الموسيقى العربيةِ، وهناكَ التقى كمالَ الطويل، فاندمجَت أرواحُهما في سمفونيةِ الإبداعِ. عملَ مدرسًا للموسيقى، ثم انطلقَ إلى الإذاعةِ عامَ 1951، حاملاً اسمَ “حافظ” هديةً من الإذاعي حافظ عبد الوهاب، وكأنَّ الاسمَ الجديدَ كانَ بوابةً لعالمٍ آخر.


صوتٌ يهزُّ وجدانَ الأمة.. بين الثورةِ والقلبِ

لم يكنْ عبد الحليم مجردَ صوتٍ، بل كانَ رسالةً. ارتبطَ اسمُه بثورةِ يوليو، فغنَّى للوطنِ بحنوِّ العاشقِ، وتشابكتْ مسيرتُه مع جمال عبد الناصر، الذي رآهُ “ابنًا مخلصًا للثورة”. أغاني مثل “إحنا الشعب” و”ابنك يقولك يا بطل” حوَّلَتْه إلى صوتِ الجماهيرِ، يُعبِّرُ عن آمالِها وأحزانِها، كأنَّه مرآةُ الشارعِ المصري.

لكنَّ قلبَ العندليبِ كانَ ينزفُ سرًّا. تفاقمَ مرضُ البلهارسيا، وأجرى 61 عمليةً جراحيةً، ومع ذلك، وقفَ على المسرحِ يُنشدُ بـ”صافيني مرة”، وكأنَّ الألمَ وقودٌ لإلهامِه. قالَ يومًا: “أنا ابنُ القدر”، فصارَ المرضُ رفيقًا عنيدًا، يُذكِّرُه بضراوةِ الحياةِ وهشاشتِها.


الحبُّ المُحرَّم.. سعاد حسني واللغز الذي لم يُحلْ

في عالَمِ الأضواءِ، حيثُ تُنسجُ الأساطيرُ، التقتْ عينا العندليبِ بالسندريلا سعاد حسني. جمعَهُما فيلمُ “البنات والصيف” (1960)، لكنَّ الحياةَ كتبتْ لهما دراما أكثرَ تعقيدًا. روتْ رسالةٌ بخطِّ سعاد اكتُشفتْ مؤخرًا ألمَ الفراقِ: “أتعسُ مخلوقةٍ على وجهِ الأرض”، بينما نفتْ أسرةُ حليمِ الزواجَ، مُؤكدةً أنَّ المرضَ منعَه من تحمُّلِ مسؤوليةِ زواج.

لكنَّ شقيقةَ سعاد أصرَّتْ على وجودِ عقدِ زواجٍ سريٍّ عامَ 1960، مدعومًا بشهادةِ يوسف وهبي، بينما اتهمتْ أسرةُ حليمِ بالتزويرِ، وكأنَّ اللغزَ صارَ جزءًا من تراثِهِمَا الفنيِّ. بقيَ الحبُّ بينهُما كأغنيةٍ ناقصةِ اللحنِ، تتردَّدُ في أروقةِ الذاكرة.


سيمفونيةُ الفنِّ.. سينما تغازلُ الأغنيةَ

قدَّمَ العندليبُ 16 فيلمًا، بدأها بـ”لحن الوفاء” (1955)، واختتمها بـ”أبي فوق الشجرة” (1969)، حيثُ مزجَ بينَ الرومانسيةِ والواقعيةِ. في “الوسادة الخالية” و”يوم من عمري”، جسَّدَ شخصيةَ الشابِّ الحالمِ الذي يُصارعُ القدرَ، بينما حوَّلَ أفلامَهُ إلى بواباتٍ لأغانيهِ الخالدة.

أما الأغاني، فكانتْ قصائدَ تُغنَّى. من “على قد الشوق” إلى “قارئة الفنجان”، تعاونَ مع عمالقةِ التلحينِ: بليغ حمدي، وكمال الطويل، ومحمد عبد الوهاب. غنَّى للحبِّ، للوطنِ، وللألمِ، فصارَ صوتُه سِفرًا يُقرأُ بقلبِ الشرق.


الرحيل.. عندما أسكتَ الموتُ العندليبَ

في لندنَ، تحتَ سماءٍ غائمةٍ، أسلمَ الروحَ في 30 مارس 1977، بعدَ معاناةٍ مع تليفِ الكبدِ. عادَ جثمانُه إلى مصرَ، فخرجَ مليونانِ لوداعِه، كأنَّهم يُشيَّعونَ جزءًا من أحلامِهم. قالوا إنَّ الجنازةَ كانتْ ثالثَ أكبَرِ جنازاتِ القرنِ، بعدَ أم كلثومَ وعبد الناصرِ، وكأنَّ مصرَ كلَّها صارتْ جوقةً تُرددُ: “عدي النهار”.


خاتمة: أسطورةٌ لا تنتهي

عبد الحليم حافظ.. لم يمتْ. ما زالَ صوتهُ يُلامسُ شغافَ القلوبِ، كندىً على أوراقِ الذكرياتِ. هو ابنُ القريةِ الذي حوَّلَ ألمَهُ إلى فنٍّ، والمريضُ الذي غنَّى للحياةِ. تركَ وراءَهُ 230 أغنيةً، و16 فيلمًا، وآلافَ القصصِ التي تُروى كأنها من “ألف ليلةٍ وليلة”.
“العندليب الأسمر”.. اسمٌ يُفرشُ السجادَ الأحمرَ للخلودِ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى