بين فكي الأفعى والعقرب: الصراع الإيراني – الإسرائيلي وتحديات اليقظة العربية

في الشرق الأوسط، لا شيء يحدث صدفة. كل تصعيد يحمل خلفه حسابات دقيقة، وكل تهدئة تخفي اتفاقات غير معلنة. وبين إيران وإسرائيل، لا يدور صراع مباشر فحسب، بل تتفاعل تحت السطح معارك خفية لتقاسم النفوذ والهيمنة في منطقة لم تعرف الاستقرار منذ أكثر من قرن.

في هذه الزاوية المتقلبة من الجغرافيا، تقف الدول العربية على مفترق طرق خطير: فإما أن تكون شريكًا فاعلًا في رسم ملامح المستقبل، أو تظل ساحة مفتوحة لتجاذبات الخارج، يُعاد تشكيلها حسب موازين لا تصنعها هي.


الصراع الإيراني – الإسرائيلي: تحالف الأعداء في لعبة المصالح

قد يبدو المشهد سرياليًا للوهلة الأولى: عداء معلن بين إيران وإسرائيل، تراشق إعلامي مستمر، تهديدات متبادلة، واغتيالات متقطعة. لكن خلف هذا العداء المعلن، تقبع حقيقة أكثر تعقيدًا: الصراع بينهما لا يهدف إلى الحسم، بل إلى التوازن المُراد دائمًا.

فـ إسرائيل، الدولة النووية الوحيدة في المنطقة، تعلم أن بقاء إيران “عدوًا مستفزًا” هو ذريعة استراتيجية لتبرير تحالفاتها الأمنية وابتزاز الغرب سياسيًا وعسكريًا. وإيران، من جهتها، تتغذى داخليًا على العداء مع إسرائيل كأداة شرعية لتوسيع نفوذها في العواصم العربية تحت شعار “محور المقاومة”.

الطرفان يدركان أن الصراع بينهما هو وقود النفوذ، و”إدارته” أهم من حسمه.


مصر والسعودية: قوتان عربيتان على تماس الخطر

في ظل هذا المشهد المعقد، لا يمكن لمصر والسعودية البقاء في موقع الترقب.

  • مصر، بموقعها الاستراتيجي بين شرق المتوسط والقرن الإفريقي، تواجه اليوم تحديات مركبة: تمدد إسرائيلي في البحر، وتحالفات إثيوبية مدعومة أحيانًا بغطاء إسرائيلي، ناهيك عن محاولات ضرب العمق الأمني عبر سيناء أو إضعاف النفوذ المصري في أفريقيا.
  • السعودية، وهي في حالة اشتباك مزمن مع الأجندة الإيرانية، باتت تدرك أن التقارب الحذر لا يعني الأمن، وأن التغيير في لهجة طهران لا يلغي استراتيجيتها التوسعية التي ترى في الخليج مجالها الحيوي.

كلا الدولتين أمام مسؤولية تاريخية: إما قيادة مشروع عربي يحصّن المنطقة، أو ترك الباب مفتوحًا أمام قوى خارجية تعبث بمستقبلها.


التهديد الثلاثي: إسرائيل، إيران، تركيا… ومشروع التفتيت الناعم

لقد أُنهكت الأمة العربية لعقود عبر مواجهات خارجية، لكن الخطر الأشد جاء من مشاريع إقليمية هجينة:

  1. إسرائيل: تجاوزت مشروعها الصهيوني من “النيل إلى الفرات” إلى ما هو أخطر: التطبيع مقابل الهيمنة. دخولها المباشر في أفريقيا والخليج لم يكن بريئًا بل محسوبًا بدقة.
  2. إيران: تجاوزت الخطاب الطائفي لتصبح قوة نفوذ فوق-وطنية. ميليشياتها لا تحمل فقط سلاحًا، بل مشروعًا ثقافيًا-عقائديًا يريد تفكيك البنية القومية من الداخل.
  3. تركيا: تلعب بثلاث أوراق متزامنة: العثمانية الناعمة، الاقتصاد المتغلغل، والمزايدة السياسية على القضية الفلسطينية. وهي تستفيد من الفراغ العربي لتعيد رسم خرائط النفوذ في شمال أفريقيا وبلاد الشام.

وكل هذه القوى تجتمع في نقطة واحدة: الوطن العربي لم يعد مجرد مجال نفوذ، بل ساحة صراع متعددة الطبقات.


الولايات المتحدة: الراعي الرسمي لإعادة تشكيل المنطقة

وراء هذا كله تقف الولايات المتحدة، لا كلاعب ميداني مباشر دائمًا، بل كـ مخرج سيناريو متعدد الحلقات.
واشنطن تدير الصراع لا لتوقيفه، بل لضمان ألا يُحسم إلا بما يخدم التفوق الإسرائيلي ويمنع ولادة مشروع عربي مستقل.

فالاستراتيجية الأمريكية، منذ حرب العراق وحتى اتفاقات أبراهام، تقوم على قاعدة: “السيطرة عبر التفتيت والتوازن عبر الاستنزاف”.


ما الذي يجب أن يفعله العرب؟ استراتيجية يقظة قبل فوات الأوان

لن يكون المستقبل العربي بيد أبنائه ما لم تُصاغ رؤية جماعية عميقة، قائمة على:

  • بناء تحالف عربي متكامل يحيد القوى الأجنبية من مراكز القرار.
  • تطوير عقيدة أمن قومي جماعي تتجاوز حدود الأقطار.
  • تعزيز الإنتاج العسكري والتكنولوجي المحلي.
  • التصدي للمشاريع الثقافية الموازية التي تضرب الهوية من الداخل.

الفرصة قائمة، لكن الوقت يضيق. والمطلوب ليس العودة إلى الشعارات، بل مشروع عربي بعقلية الدولة الحضارية لا القُطر المحاصر.


خاتمة: من لا يصنع قدره، يُصنع له

إذا كان العرب قد فقدوا زمام المبادرة في فصول سابقة من تاريخهم، فإن اللحظة الراهنة هي اختبار حقيقي للوعي السياسي العربي.

الصراع الإيراني الإسرائيلي، بكل ما فيه من توتر ودم، هو في جوهره جسر لمن يجرؤ على العبور، وسكين لمن يظل جامدًا في مكانه.

فلنكن نحن الجسر، لا الضحية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى