هل كانت حملة نابليون على مصر تنويرا أم احتلالا بنكهة فرنسية

الوجه الآخر للحملة الفرنسية ...

قد ملئوا آذاننا في مدارسنا صغاراً بأن الفرنسيين قدموا إلى مصر حاملين شعلات النور ليخرجوا أهلها من دجاة التخلف إلى نور الحضارة؛ وكأن فرنسا قد بعثت لنا فلذات أكبادها ليموتوا في برنا وأخرجت زهرة علمائها ليخرجونا من الجهل إلى الحضارة وبذلت الملايين لأجل عيون المصريين فقط.

وبينما تقرأ في البحوث العربية الحديثة عن موقعة إمبابة وثورتي القاهرة الأولى والثانية؛ تغفل عن جانب كبير من الحقيقة المريرة ووجهاً آخراً لهذا الاستعمار الذي لا يتباين مع سواه كثيراً.

هناك في أقاصي الصعيد دارت طوال ثلاث سنوات الحروب الحقيقة مع هذه الهجمة، وهي معركة الجباية والضرائب واستنفاد قوت يوم الفلاحين المصريين البسطاء الذين وقعوا في وقت واحد بين براثن المماليك والفرنسيين معاً.

فبعد فرار بقايا المماليك المغلوبين إلى الصعيد بزعامة مراد بك، وطوال الأشهر التي سادت معارك الفرنسيين ضد المماليك، كان السكان هناك بين براثن خصم مقيم لا يغادر وعدو متوار يستنظر سهو يسير من العدو الأول ليخرج لهم هو الآخر.

لم تكن المعركة الحقيقية بين الفرنسيين والمماليك بالصعيد هي معركة السيف والسيطرة على المدن وحدها، بل كانت معركة الأموال ومن منهم يستطيع أن يجبى من الفلاحين القدر الأكبر من الأموال لينفق منها على حرب الآخر.

وعلى مدار العام الأول لا تهدأ القرى ولا تكف غير مرة عن مشاركة المماليك في التصد للاستعمار في شتى نواحي الصعيد. وطالما أن الحال لم يحسم بشكل نهائي للسلطة الجديدة؛ فإن ترويض القرى على إظهار الطواعية في تسديد الرسوم يصبح من الأمور الشاقة للغاية.

ترسخ المستندات والمراجع ومذكرات جنرالات الهجمة الفرنسية نفسها ذلك، فيفضى الجنرال بليار في لغة مريرة للجنرال ديزيه بهذه الحقيقة قائلاً: “لن يهدأ لنا أبداً مقر بمصر، طالما ظل السكان يعتقدون على نحو دائم بعودة المماليك، إذ أنهم سوف يتابعون رفضهم لدفع الضرائب … وتنظيم البلاد يجعلنا نخوض تعقيدات جمة؛ ومن ثم نظل نواجه -دون انقطاع -مواجهات عنيفة مع أهالي القرى”

فبين هذا وذاك كان أكثر ما يقلق الفلاحون المصريون المغلوبون على أمرهم هو إرغامهم على دفع الضرائب مرتين؛ مرة تحت وعيد البنادق الفرنسية ومرة أخرى حينما يختفي الفرنسيون ويظهر لهم مراد بك بقواته من المماليك.

سجل الفنان الفرنسي الشهير فيفان دينون الذي رافق حملة الجنرال ديزيه إلى الصعيد في يومياته حواراً مهماً رآه مرأى العين بين الفرنسيين وفلاحي إحدى قرى “جرجا” حول دفع ضرائب “الميرى”.

قال إن الفلاحين ردوا على طلب الدفع بقولهم: “لن ندفع حتى نعاين معركة حاسمة بين الفرنسيين والمماليك، حينها سوف يكون الميرى للمتغلب”.

وهي عبارة على ما ترى فيها من الخضوع والهوان، إلا أنها تحمل شقاء فلاحين بسطاء كل ما يأملون فيه هو دفع الضرائب -الظالمة على كل حال -مرة واحدة فقط وألا يكرهون على دفعها مرتين. “وكان المقصود بالمعركة الحاسمة تحقق السيادة الفعلية على الأقاليم لأحد الفريقين”.

يقول د/ناصر إبراهيم:

“وإذا كان من الضروري طرد مراد بك ومماليكه من مصر الوسطى والعليا؛ حتى يتأكد للفلاحين ومشايخ القرى تحقق السيطرة الفرنسية؛ ولذا اقتضى الأمر في كل مرة يظهر فيها المماليك في بعض القرى، أن يسارع الجنرالات باستعراض كتائبهم على مرأى من الفلاحين والمشايخ ولأن المماليك يزاحمون الفرنسيين في جباية الضرائب، فإن أهالي القرى يجدون أنفسهم مستهدفين للدفع مرتين؛ مما يضطرهم إلى اتخاذ الحيطة والحذر في الدفع وإلى متابعة تطور الموقف … ويصبح من الأمور المعتادة أن الفلاحين لا يدفعون إلا في اللحظات الحرجة التي لا يملكون فيها دفعاً للقوة العسكرية التي تداهم قراهم، سواء من قبل الفرنسيين أو المماليك؛ حيث كان الطرفان في حالة سباق وتنافس شديدين على سرعة التحصيل كل قبل الآخر”.

يسجل مدير المالية للجيش الفرنسي (بوسيلج) في تقاريره ذلك أيضاً بقوله: ” إنهم يضنون بأموالهم ولا يدفعونها إلا بشق الأنفس وقرشاً بعد قرش، وأموالهم مخبؤه وكذلك محاصيلهم وأثاثهم.

وهم يعلمون علم اليقين أن لا ملاذ من السداد، سواء كان ذلك طوعيا أم لزوما ولكنهم يتماطلون حتى إذا اقتحمهم الجيش لإجبارهم ورأوا طلائعه من بعد تركوا قراهم رجالاً ونساءً وأطفالاً واستاقوا مواشيهم أمامهم، فإذا وصل الجيش إلى القرية ووجدوها خالية على عرشوها …”

وبعد خروج بونابرت لحملة سوريا في شتاء 1799م بجزء كبير من الجيش، زاد أمر تحصيل الفرنسيين للأموال في الصعيد صعوبة لنقص المجندين، حتى كتب الجنرال دوجا (الذي عينه بونابرت مكانه خلال حملة سوريا) إلى الجنرال داماس يقول: “إننا هنا ينقصنا المال والمال ثم المال، والرجال والذخيرة والخشب وصداقة الأهالي. فهل سوف تعالج عودة الجيش من سوريا كل هذا؟ إنني أتمنى ذلك من كل قلبي، ولكنني أعترف لك أنى أنتظر بنفاذ الصبر توقف هذه المأساة التي تذهب كل يوم بأرواح بعض أبطالها الرئيسيين …”

أما فيفان دينون فيتحدث في موضع آخر من يومياته عن صعوبة موقف الفلاحين ومشايخ القرى من دفع الضرائب: “إن دفعوا للفرنسيين عدوا ذلك جريمة تعاون معنا، فإذا عاد المماليك بعد رحلينا لم يتركوا لهم قرشاً ولا حصاناً ولا جملاً، وكثيراً ما كان شيخ القرية يدفع حياته ثمناً لتحيزه المزعوم لنا”. “ويلقى الشيخ المصير ذاته إذا مال للمماليك ورفض إمداد الكتائب الفرنسية بالمؤن الغذائية والضرائب”. فالموت إذا هو المصير المحتوم يختلف فقط عما إذا كان بيد الفرنسيين أم المماليك؟!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى