كارل ماركس المشروع الفلسفي النقدي الذي لم ينتهي بعد
في محتوى هذا المقال
تقوض الاتحاد السوفييتي والانحدار المدوي للتجربة الاشتراكية كان مباغتة للعالم بمن فيهم الأعداء الذين ما داعبهم الرجاء بهذا التحلل المسرع. حتى يكون النظام العالمي تحت زعامة القطب الأحادي ويتحولَ المعسكر المنافس إلى حطام للنظريات المُتلاشية.
دارت رحى الحديث ولم تتوقف إلى الآن بشأنِ المكائد والدسائس التي استهدفت ما كان يُمثلُ منحنيا نحو تاريخ جديد، حيثُ ينعتق الإنسانُ من إكراهات مادية ولا يخسرُ طاقاته الحيوية لإشباع المارد الرأسمالي.
غير أنَّ التستر وراء هذا التأويل المبسط يعارض المنطق العلمي ويعمقُ الأزمة أكثر على المستوى الإيديولوجي، لذا فإن المراجعات العقلانية التي افتتحها أصحاب الوعي قد تمخضت عن الإقرار بأنَّ ثمة عوامل كثيرة نخرت المعسكر الاشتراكي، لعلَّ من أبرزها التنميط وتجنيد الواقع لخدمة النظرية واختزال المنوال الفكري إلى مجموعة من العبارات التي تردد في المناسبات، أضف إلى ذلك انعدام الطواعية في تقبل الآخر. كما استثمار المعجم الحزبي لنعت المختلف في الفكر والرؤية بالتخلف والوصولية فيما يناقض “المبدأ الديالكتيكي” الذي تقوم عليه الفكرة الماركسية بأكملها.
يرى إنجلز أنَّ الفلسفة الديالكتيكية ترى حتمية التداع في كل شيء ولا شيء يستطيع الصمود في وجهها إلا المسلك المتصل للنشوء والاضمحلال، أي سنة الحياة هي الباقي الوحيد.
وما أصاب الفكر الشيوعي في المقتل هو توقع أنصاره لنهاية الرأسمالية مستمدين اعتقادهم مما ورد في نصوص ماركس بينما كان برنامج الأخير لصياغة المفاهيم يعتمدُ على رصد حركة الواقع وما يفرزه التطور من الصيغ.
فباعتقاده أنَّ الروح نفسها التي تبني أنظمة فلسفية في عقل الفيلسوف تشيد مسارات السكك بأيدي العُمال، ما يعني أن الفكر غير منصرف عن الواقع بل ينهض منه وقد يصبح فاعلا مؤثراً في تغيراته.
قدر الرأسمالية
المناورة والمفاوضة هما منبع قوة النظام الرأسمالي؛ إذ ينتفع من تناقضاته وأزماته لترميم شبكته الاقتصادية. يقول المنظر الشيوعي تروتسكي: “الرأسمالية تحيا تماما على الأزمات وفترات الرخاء الاقتصادي كما يحيا الكائن البشري على الشهيق والزفرة”.
ومن ناحيته يوافق المفكر المصري سمير أمين، قائد ثورة أكتوبر، في رأيه، لافتاً إلى تعافي الرأسمالية من هفواتها: “لقد نجحت الرأسمالية في تخط أزماتها العامة وأكدت الليونة الكبيرة التي يمتلكها قانونها ودخلت فترة جديدة بعد الحرب العالمية الثانية بإذكاء المنافسة مع الشرق”.
ومع تلاش الاتحاد السوفييتي بادرت الأوساط الإعلامية والفكرية الخاضعة للتيار الليبرالي بإعلان نهاية التاريخ، إذ بشرت الدوائر الغربية بشرى تكليل النظام العالمي بالرأسمالية بصفتها آخر ما تأتيه الإنسانية من الرقي.
هل يعني ذلك أنَّ الرأسمالية هي قدر الإنسانية؟ هل الماركسية كانت نطاقا تم تخطيه؟ أو أنَّ هذا التقدم المنفلت مثل مرض خبيث لا يفضي إلا إلى الهلاك؟
لا يمكن الجزم في هذا الشأن مهما ازدادت الأورام في جسد النظام الرأسمالي مع أن أعراض الأزمات لا تفارق هيكلية نظامه، ومن أشدها وضوحاً الإسراف في التصنيع وسلعنة القيم، والإيهام بالانعتاق من خلال وفرة القنوات الإعلامية، والمرمى الأعلى للرأسمالية ليس وجود الفرد الحر، بقدر ما يريد كائنات مستهلكة، شَخص سمير أمين تضارب هذا الكيان بقوله: “لا يمانع النظام الرأسمالي في أن تشهر بالسيف بيدٍ وتأخذ بيدك الأخرى علبة كوكاكولا.”
والنصر الأهم بالنسبة للرأسمالية تأكد عندما بدأتَ حملةً لإقناع الجميع بأنَّ الاشتراكية ما هي إلا وجه آخر من السراب. واندمج عددُ من الطلائع الشيوعيين في العالم الثالث لتلك الهجمة يروجون لنضوب صلاحية رسائل ماركس، ملوحين بكتاب فرانسيس فوكوياما عوضا عن الكتاب الأحمر.
وغاب عن هؤلاء أنَّ ما قدمه ماركس ليس عقيدة إنما مخطط نقدي ويصفه المفكر البريطاني تيري إيغلتن بأنَّه أكبر “فيلسوف ضد” وتنطبقُ العبارةُ على المفكرين الذين يألفون أفكاراً تشكك في الأفكار أو يشككون في منهج معتبر كامل.
ويتقاطع ماركس في هذا الصوب مع الفيلسوف المهيج للجدل نيتشه، فمن المعلوم أنَّ ماركس قد ثارَ وثلب الفلاسفة، لأنهم قد اكتفوا بتفسير العالم بينما المأمورية تكمن في التبديل.
والوضع لا يختلف لدى كاتب “هكذا تكلم زرادشت” الذي أعلنن أنَّ كل ما تعامل معهُ الفلاسفة منذ آلاف السنين كان مومياوات مفاهيمية.
إذاً فإنَّ كل شيء لابدَّ أن يمرَّ تحت ميكروسكوب الاستفهام، وهذا ما يهدفُ إليه عمل ماركس الذي هو مسعى للتحرر من الإدراك الزائف. وبخلاف ما شاع عن ماركس بأنَّه قد اختصر الفرد إلى بعده المادي، فبرأي المفكر اللبناني كريم مروة، لم يترك ماركس دور العوامل غير المادية التي أسداها تسمية العوامل الروحية ولو بقدر أقل في حركة التاريخ.
البعد الإنساني
لم يشاهد التاريخُ فيلسوفاً قد أحيط بأفكاره حشود كبرى من شتى الجنسيات مثلما غدا ذلك لكارل ماركس، حيث اخترقت بحوثه عوائق القومية والإثنية، وأصبح رمزا فارقا في اتجاه تقدم الفكر الفلسفي.
إذ كشف سر ظاهرة الاستغلال التي رافقت الإنسانية في سياقات تاريخية متفاوتة إلى أن بدت بمحياها المُلطف في مرحلة الرأسمالية. وقد غاب البعد الإنساني في شخصية ماركس نتيجة العناية بصورة المكافح والمنظر، غير أنَّ الكاتب الإنجليزي فرنسيس وين يكترث إلى اهتمامات ماركس الأدبية وعذابه الشخصي مع المرض والفقر المدقع وملاحقته من بلد إلى آخر في كتابه “قصة حياة كارل ماركس” الذي صدر حديثا من دار السطور، وما يشد الانتباه في هذا النطاق هو المصاحبة الفريدة بين ماركس وإنجلز، فكان الأخير مصدر الإعانات المالية لأسرة ماركس.
ولم يقتصر دور إنجلز على الدعم المادي، بل أمد ماركس بتفاصيل هامة عن تجارة القطن وحالة الأسواق الدولية، وبذلك لعب دور فصيل الاستكشاف خلف خطوط العدو، على حد وصف وين.يفرد المؤلف مساحة لتصوير حياة ماركس وتهافت الظروف المعيشية لأسرته في لندن، فكان أثاث وتجهيزات الحجرتين اللتين عاش فيهما أفراد الأسرة محطمة وبالية، غير أنَّ ذلك كله ل م يعيق ماركس عن استئناف رسالته وتنقيباته المعرفية في مكتبة المتحف البريطاني، والملمح الملفت في شخصية صاحب “بؤس الفلسفة” هو روحيته المخاطرة، إذ رفض أن يمضي حياته مكبلا بكليشيهات محدودة، وحين عمل في مجال الصحافة أشعلت أراءه المطبوعة جدلاً، لذا لم يطل به المقام في بروسيا، لينتقل إلى فرنسا.
وقبيل نهاية حياته، تتعاظم مكابدة ماركس، وعندما يرتاد الجزائر في رحلة استشفائية يكاتب صديقه هناك فيكتب: “أنت تعلمُ أنه لا يوجد بين البشر من يجفو مثلي من الصيغ العاطفية، غير أنني سأكون كاذباً لو لم أقر بأن ذهني منشغل بزوجتي، لقد كانت أفضل ما في حياتي”. أخيراً نقتطف كلام الفيلسوف الألماني غوته: “النظرية رمادية، وشجرة الحياة خضراء متجددة خضرة”.