الملابسات والشكوك حول انتحار المشير عبد الحكيم عامر
حيثيات وظروف مقتل المشير عبد الحكيم عامر، قراءة في سيرته الذاتية منذ ثورة يوليو 1952إلى غاية نكسة يونيو1967.
في محتوى هذا المقال
كان المشير عبد الحكيم عامر الرجل الثاني في مصر ابان الحقبة الناصرية الممتدة من سنة 1952 إلى غاية سبتمبر أيلول سنة 1967.
ولد عبد الحكيم عامر يوم 11 ديسمبر 1919 في قرية أسطال من محافظة المنيا في الصعيد المصري. التحق بالكلية الحربية، ليتعرف على جمال عبد الناصر. فتجمعها صداقة قوية استمرت لسنوات. كانت الصداقة بين الرجلين وثيقة الى حد لا يصدق. فكلاهما سمى نجله باسم صديقه، كما جمعتهم مصاهرة. وكان الرجلين أهم أعضاء تنظيم الضباط الاحرار. وقد شاركا بدورهما في حرب فلسطين سنة 1948.
عبد الحكيم عامر في ثورة يولو52
في يولو سنة 1952 وتحديدا ليلة 23 من يوليو، قاد جمال وعبد الحكيم الثورة من خلال السيطرة على مقر القيادة العامة للجيش. في اليوم التالي ألقي بيان الثورة عبر الإذاعة المصرية، والذي لاقى تأييدا شعبيا منقطع النظير. نجح الانقلاب أو الثورة وأصبح الرجلين يمسكان بزمام الدولة بعد إبعاد الرئيس محمد نجيب و تحديد إقامته.
أصبح عبد الناصر بعد ذلك رئيسا وأصبح عبد الحكيم قائدا عاما للجيش المصري بعد أن تمت ترقيته من رتبة الصاغ أي الرائد الى رتبة اللواء.
إخفاق عبد الحكيم عامر في حرب 56
في سنة 1956 قام عبد الناصر بتأميم قناة السويس، مما ألب ضده ثلاثة دول وهي (فرنسا، بريطانيا، إسرائيل). وقد عرف ذلك بالعدوان الثلاثي الذي منح عبد الناصر دور الزعيم، بعد تدخل القوى الكبرى الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. وانتهى بالتالي الوجود الاستعماري لبريطانيا في منطقة الشرق الأوسط.
رغم النصر السياسي الذي حققه عبد الناصر في حرب (56) إلا ان صديقه عبد الحكيم عامر أخفق إخفاق ذريعا في إدارة المعركة. وقد أظهر نقصا صريحا في المعرفة العسكرية وارتكب أخطاء جسيمة تكررت للأسف سنة 1967.
رغم اخفاق عبد الحكيم عامر في حرب 56 إلا أنه لم يبرح مكانه. وحتى القيادات التي كان يعول عليها بقيت أيضا في مكانها. لم يحدث أي تغيير على الرغم من النقائص والفجوات التي أبدتها تلك القيادات، خاصة منها المسؤولة عن الطيران والدفاع الجوي.
كان جمال عبد الناصر يفضل عبد الحكيم عامر على باقي أعضاء مجلس قيادة الثورة مثل (إبراهيم البغدادي وأنورالسادات والأخوين جمال وصلاح سالم وغيرهم) كانت العلاقة بين الرئيس والمشير وطيدة، الى الحد الذي جعلهما يقتسمان الحكم فيما بينهما، مما أثر فيما بعد على الحياة السياسية في مصر…
مسؤولية عبد الحكيم عامر عن فشل الوحدة بين مصر وسوريا
في سنة 1958 أعلنت الوحدة بين سوريا ومصر، ليصبحا دولة واحدة. وعين المشير عبد الحكيم عامر حاكم سوريا، وقائدا عاما للجيشين المصري والسوري. ولكن سرعان ما تفككت الوحدة من خلال انقلاب عسكري في سوريا، كان عبد الكريم النحلاوي مدير مكتب المشير أحد زعمائه.
عاد عبد الحكيم عامر الى القاهرة بعد الانفصال، وقد حمله الجميع مسؤولية تفكك أهم مشروع وحدوي عرفته الامة العربية. ولكنه ظل في مكانه وكانت صداقته وعلاقته الخاصة بالرئيس تشفع له في كل مرة…
عبد الحكيم عامر يحكم مصر من وراء ستار جمال عبد الناصر
في سنة 1962 بدأت العلاقة بين عبد الناصر وعبد الحكيم تتأزم. إذ امتدت سلطات المشير الى قطاعات مدنية وأصبحت التعيينات لا تتم الا بموافقته. بل أصبحت أي ورقة تدخل الى مكتب عبد الناصر يجب ان يراجعها مكتب المشير، وهذا بشهادة السيد (سامي شرف) مدير مكتب عبد الناصر للمعلومات.
رفض عبد الحكيم عامر العديد من الاقتراحات التي أبداها عبد الناصر لتحجيم سلطته. وأصبح عبد الحكيم منذ سنة 1962 الحاكم الفعلي لمصر سيطر على كافة الأجهزة ودواليب السلطة. ويشير الخبراء بأن عبد الناصر فيما بين 1962 حتى 1967 كان مجرد واجهة للنظام. أما الحاكم الفعلي فكان المشير عبد الحكيم عامر وصلاح نصر وشمس بدران.
هزيمة 67 ونهاية عبد الحكيم عامر
كان الرئيس جمال عبد الناصر يتحين الفرصة للتخلص من سيطرة عبد الحكيم،لكن فيما يبدو لم تتح له الفرصة الا في سبتمبر سنة 1967 إثر النكسة.
قبيل حرب يونيو / حزيران سنة 1967 أغلق الرئيس المصري جمال عبد الناصر خليج العقبة وكذلك طلب من الأمم المتحدة سحب قواتها من المنطقة العازلة في شبه جزيرة سيناء. مما اعتبرته اسرائيل اعلان حرب عليها.
وفي فجر الخامس من يونيو/ حزيران شن الطيران الإسرائيلي هجوما عنيفا على جميع المطارات العسكرية. ودمر بالكامل الطائرات المصرية. فأصبحت القوات المصرية بلا غطاء جوي يحميها. مما جعلها تصبح فريسة سهلة للجيش الإسرائيلي الذي احتل في ستة أيام فقط، شبه جزيرة سيناء والضفة الغربية، وكذلك هضبة الجولان السورية. هزيمة لا زللنا نعاني منها الى اليوم. ضاعت الكرامة… وضاعت الأرض العربية…
أمر المشير عبد الحكيم عامر كافة القوات بالانسحاب الى شاطئ القنال، دون أي خطة انسحاب. مما دفع بالمزيد من الخسائر. اذ قتل في ذلك الانسحاب العشوائي ما يزيد عن خمسة عشر ألف جندي وضابط مصري.
ومرة أخرى تتكبد مصر الهزيمة وعلى يد نفس الشخص ألا وهو المشير أو صديق الرئيس.. تراجعت الهيبة..وانكسر العرب للمرة الثانية بعد 1948 وأعلنت مصر قبولها لوقف إطلاق النار.
خطاب التنحي أوخديعة أبي موسى الأشعري
اعترف عبد الناصر بمسؤوليته كاملة عما حدث. وكذلك المشير عامر، واتفقا كلاهما على ترك منصبه. وتكليف وزير الدفاع آنذاك (شمس بدران) بتولي منصب رئيس الجمهورية.
توجه الرئيس عبد الناصر بخطاب عاطفي الى جماهير الأمة كتبه عقله الإعلامي محمد حسنين هيكل. قال فيه عبد الناصر بأنه على استعداد كامل لتحمل المسؤولية كلها. وفي خدعة وصفها نقاد الزعيم الراحل بخدعة أبي موسى الاشعري، لم يكلف عبد الناصر شمس بدران بخلافته، بل كلف زكريا محي الدين. خرجت الجماهير في كافة المدن المصرية، ترفض التنحي وتهتف ببقاء الزعيم عبد الناصر، الذي تراجع عن قراره بعد يوم واحد وبقي في مكانه.
في الأثناء لم يعلن عن استقالة المشير الا في نهاية نشرة الثامنة مساء. وأصبح من الواضح لدى المشير وبعض من كبار القادة العسكريين الموالين له، بأنه سوف يتحمل المسؤولية أمام الشعب وأمام التاريخ.
اجتمع كبار القادة في بيت المشير عبد الحكيم عامر طالبين الحماية. وأصبح بيت عبد الحكيم يشبه الثكنة العسكرية. وقد توجس عبد الناصر من شعبية المشير خاصة بعد ان اكتشف خطة انقلاب أو تحرك ضده مكتوبة بخط المشير نفسه.
كلف عبد الناصر كل من سامي شرف مدير مكتبه وكذلك شعراوي جمعة وزير الداخلية وأمين هويدي رئيس المخابرات العامة تقضي بإعداد خطة القبض على المشير وتحديد اقامته واخلاء بيته في الجيزة من كافة الأسلحة والضباط المعتكفين فيه.
المشير وحكاية العشاء الأخير
وجاءت الخطة كالتالي: اتصل عبد الناصر بعبد الحكيم في بيته، ودعاه للعشاء بما قد يوحي للمشير أن هناك صلح بينهما. رغم اعتراض زملائه وأعوانه وحتى اخوته، قبل المشير دعوة الرئيس للعشاء. وتوجه الى بيت عبد الناصر في منشية البكري. ليفاجئ بوجود السادات وزكريا محي الدين وكذلك الشافعي، فيما اعتبرها محاكمة وليس عشاء.
في الخارج تم التحفظ على مرافقه وسائقه وتمت مواجهته بالأدلة الدامغة على ضلوعه في مؤامرة ضد جمال عبد الناصر.
قال امين هويدي رئيس المخابرات العامة بأن المشير حاول الانتحار الا ان هذه الرواية وقع التشكيك فيها لعدة اعتبارات.
في المقابل توجه الفريق فوزي الى بيت المشير في الجيزة وتمكن من اخلائه والقبض على جميع الضباط وايداعهم جميعا السجن الحربي.
أما المشير فقد تم أخذه الى بيته وتحديد اقامته. ولكن جمال عبد الناصر أصر على وضع المشير قيد الإقامة الجبرية بمفرده في استراحة المريوطية التابعة للمخابرات العامة.
هل انتحر المشير فعلا؟
توجه الفريق فوزي في الثالث عشر من سبتمبر صحبة ضابط من الشرطة العسكرية وضابط من الأمن الرئاسي للقبض على المشير مرة ثانية ونقله لاستراحة المريوطية. والغريب انه اصطحب يومها سيارة اسعاف، تم نقل المشير بالقوة الى (مستشفى المعادي) بحجة انه تناول سما. ولكن كل الفحوصات اثبتت ان المشير عبد الحكيم عامر لم يتناول السم.
تم نقل المشير الى استراحة المريوطية، حيث كان يشرف عليه طبيبين بالتناوب، الدكتور البيومي والدكتور البطاطا. وكان في الاستراحة معهم ممرض وكذلك خادم من الرئاسة.
وقد أكد الطبيبين في تقريرهما ان حالة المشير مستقرة. ولكن في الساعة السادسة والنصف من مساء الرابع عشر من سبتمبر، اكتشفت جثة المشير فكلف النائب العام بالتحقيق في ملابسات موت المشير. وجاء في التقرير ان المشير توفي نتيجة تجرعه سم (الاكوانتين) قبل ثمانية وعشرين ساعة. وهذا ما لا يتماشى مع التقرير الذي كتبه خبير السموم (دياب) والذي أكد ان المشير عبد الحكيم عامر قتل بواسطة وضع السم له في عصير الجوافة على الساعة السادسة تماما. وهذا التقرير هو الذي استندت اليه عائلة المشير لإثبات انه لم ينتحر.
ومما لا يدع مجالا للشك في ان المشير مات بفعل فاعل هي تلك الوصية التي نشرتها مجلة “لايف” الأمريكية قبل وفاته بعشرة أيام. والتي قال فيها بأنه لم يعد يشعر بالأمان من جهة صديقه جمال. وانه أصبح يتوجس من مؤامرة قد تحاك ضده، نظرا لمطالبته بإجراء محاكمة تحدد من كان المسؤول عن نكسة67.
العبرة من قصة المشير
توفي عبد الحكيم عامر، وتوفي من بعده بثلاثة سنوات جمال عبد الناصر، ودفنت معهم للأبد أسرار الهزيمة… يا إخوتي الذينَ يعبُرون في الميدان مُطرِقين. ْمُعَلَّقٌ أنا على مشانقِ الصَّباحْ وجبهتي – بالموتِ – مَحنيَّهْ لأنني لم أَحْنِها… حَيَّهْ.