خريطة الشرق الأوسط بعد استهداف «محور المقاومة»

في قلب الشرق الأوسط، حيث تتشابك المصالح وتتشابك الأقدار، تلوح في الأفق صورة جديدة تُعيد رسم ملامح الخريطة كأنها لوحة فسيفساء ملونة بمزيج من الدم والدموع والسياسة. تخيل أن زعيم حزب الله، الذي كان لسنوات قلب المعركة النابض، يُغتال، وأن حكم بشار الأسد الذي أمسك بمفاتيح سوريا ينهار، وأن البرنامج النووي الإيراني الذي كان بمثابة الشبح يختفي كسراب في الصحراء. ماذا يبقى؟ هل ستنقض إسرائيل على الفراغ كطائر جارح، تفرض إرادتها وتعلن أنها القوة التي لا تُقهر؟ هل ستبتلع الأراضي، خاصة السورية، وتفرض واقعًا جديدًا على شعوب المنطقة؟ وهل ستدفع القضية الفلسطينية دفعة نهائية نحو الطي، أم أن بوابة المستقبل لا تزال مفتوحة على احتمالات لم يُكتب لها النص بعد؟

هذه ليست مجرد تساؤلات في كتابات الصحف أو محطات الأخبار، بل هي أسئلة تتغلغل في أعماق كل من يراقب بحذر تحولات الشرق الأوسط، وتدفعنا لنقف على شفا مرحلة جديدة، ربما تكون الأكثر حسماً وتأثيراً في تاريخ المنطقة. فهل نحن على موعد مع شرق أوسط جديد تحكمه إسرائيل؟ أم أن الرهان ما زال على قوى المقاومة، التي تعرف جيداً كيف تُعيد رسم معادلات القوة في اللحظات الحرجة؟

اغتيال حسن نصر الله: لبنان في منعطفٍ حرج

اغتيال قائد حزب الله اللبناني حسن نصر الله هو زلزلة في معادلات القوة الميدانية بالمنطقة. فقد ولد حزب الله –على مدى ثلاثة عقود– كثمرة «تصدير إيران الناجح» لقوى عسكرية في لبنان، مُسلَّحٌ بعدد صواريخ هائل يناهز 130,000 قذيفة وروكيت بجميع الأنواع، وندربة تنظيمية تحاكي جيوشًا نظامية. وفاة نصر الله تعني زعزعة قوية لهذا الحواضن، لكنها لن تلغي تهديد حزب الله نهائيًا. فالخبراء في «بروكينغز» يرون أنه رغم أن الاغتيال «يضع الحزب في حالة تراجع فوري»، فإن المنظمة القوية ما زالت قائمة ومسلحة، وقد أثبتت مرونة عالية في أزمات سابقة.

الردُّ السريع لإسرائيل على اغتيال نصر الله قد يكون صادماً. فهي بحكم اتفاقية دفاعها الخاصة مع الولايات المتحدة لا تشعر بأعباء كبيرة في المدى القصير للانتقام من حزب الله. تقرير بروكينغز يشير إلى أن إسرائيل “من المرجح أن تضغط على ميزتها العسكرية الراهنة، بغض الطرف عن الغضب الدولي من الخسائر المدنية”. وبينما تلقت حكومة نتنياهو دعماً شعبياً لضرب «محور المقاومة»، قد تستهدف إسرائيل تعزيز ردعها بشن عملية أرضية محدودة في جنوب لبنان لإبعاد مخاطر الصواريخ. ويبرز هنا سؤالٌ محوري: هل تعيد إسرائيل احتلال شريط جنوبي لبنان، كما فعلت في الثمانينيات؟ كانت الاحتلال السابق سبباً في ولادة حزب الله، وقد يتفاداه القادة الحاليون، لكن احتمالات المواجهة الأرضية قائمة في حال استهدف حزب الله العمق الإسرائيلي.

على صعيد لبنان الداخلي، قد يواجه الحزبيون غضباً شعبياً وحالة شغور سياسي حادة. يرى الفتيمان وآخرون أن الصدام مع حزب الله قد يقود اللبنانيين إلى مفترق طرق: إما استقطاب أعمق حيث يصوّت الشيعة لزعيم موالٍ لحزب الله جديد، وربما يفوز الرئيس اللبناني بصورة حزبية أكثر وضوحاً، أو أن تظهر قيادة مسيحية وسنية تحاول انتهاز الفرصة للسيطرة على مواقع الدولة. إلا أن السيناريو الأفضل للبنان ربما هو عودة حركة الاحتجاجات العابرة للطوائف التي شهدتها 2019، بحيث تفرض مطالب إصلاح سياسي واقتصادي قد تخفف من هيمنة حزب الله.

في صورة رمزية تعبر عن حالة الحداد لدى أنصار حزب الله، تحتدم اليوم نقاشات المستقبل اللبناني. ومع نشوب الحرب في الجنوب، لا بد من تساؤلٍ ملح: هل يدفع اغتيال نصر الله لبنان إلى مزيد من الصراعات الطائفية أم إلى تسوية مدنية؟ والآتي هو كيف سيستثمر حلفاء إيران في العراق واليمن (وحتى في غزة) ردحاً لموقف طهران المحرج، أم أن الصبر الإيراني سيعيد ضبط جبهاتها من خلال وكلائها.

سقوط الأسد: سوريا وحروب النفوذ على الأرض

سقوط نظام بشار الأسد (بعد 13 سنة من الحرب) سيمثل «لحظة فاصلة استراتيجية»حسب تقدير الباحث ديفيد شينكر. فالنظام السابق كان مبعوثاً لإيران وروسيا، وقد دمر سوريا ودعم المقاومة التي شنّت حرباً ضد إسرائيل. شرطةٌ مذابحة هائلة ارتُكبت ضد شعبه: بين 2011 و2024 قُتل أكثر من 500,000 مواطن سوري وتشرد 14 مليوناً. كانت سوريا مُعبرَ أسلحة لحزب الله ومهداً لتهديداتٍ إقليمية. انهيار الأسد يعني أن «روسيا ستفقد قواعدها العسكرية»، وأن الحرس الثوري الإيراني وصوارخه «لم يعد لهما نكحة في سوريا». وبالفعل، بعد سقوطه، وجد حلف إيران نفسه مُقيّداً: لم تعد دمشق موطناً آمناً للإمداد والتخزين.

إلا أن الواقع الجديد لم يُبشّر بالاستقرار. وفق شينكر، أمام النظام الجديد في دمشق (يفترض «أبو محمد الشرا»، المنشق السابق عن «القاعدة») جبهات مفتوحة. المحافظات السورية ما زالت متنازَعة بين الحكومة الجديدة وجماعات مسلحة مختلفة، وقد قاومت الأقليات دعوة الإخوان (من السنة والعلويين والدروز) للتسليم بالسلاح. والأهم اقتصادياً: فاق عدد السوريين الفقراء 90%، و30% من المساكن مدمرة بالكامل، بينما تستحود قوات الشرا (جماعة جبهة النصرة سابقاً) على عديدٍ من الأراضي. كل ذلك يفاقمه حصار دولي من خلال عقوبات «قيصر» التي عطّلت الاقتصاد السوري بأكمله. هكذا، تواجه دمشق مهمة بناء دولة من ركام حرب: كهرباء تصل لساعتين في العاصمة، وعملية إعمار مرهونة بقرارات دولية مشروطة بالضوابط الأمريكية.

وتحت هذا الضغط، تحافظ إسرائيل على عيونها مفتوحة على جنوب سوريا. ذكرت دراسة معهد واشنطن أن «الجيش الإسرائيلي احتل بعض الأراضي السورية» وقام بأكثر من 700 غارة جوية على مواقع إيرانية وسورية خلال الأشهر الماضية، بدعوى مواجهة تهديدات الحكومة الجديدة. بالذات، يسود اعتقادٌ لدى تل أبيب أن «الشراوية الجديدة» (الإدارة برئاسة الشرا) متشددة فإسرائيل لن تتأخر في ضرب أي بنى تحتية أو تنسيق عسكري قد يشكل خطراً. وفي هذا السياق جرت محادثات مباشرة مع النظام الجديد «لتخفيف التوتر وتجنّب الصدام المسلح» على الحدود، لكنها تنطوي على هشاشة شديدة.

أمام ذلك، يبقى السؤال: هل تواصل إسرائيل احتلال المزيد من الأراضي السورية؟ ثمة سيناريوهان محتملان: الأول هو أن تستمر بإبقاء وجود عسكري جزئي في مرتفعات الجولان، متذرعةً بأمنها القومي وجبهة «إرهابية»، والثاني أن تتوسع تدريجياً بحجة الضغط على قاعدة حزب الله المنهارة. وكما يحذر المعهد، فإن أي «قليل من الرخاء» في سوريا سيعتمد على العلاقة مع تل أبيب. فعلى الرغم من مخاوف واشنطن السابقة من «تسليم الأسلحة لدول المنطقة»، يبدو أن إسرائيل ستتعامل مع الحكومة السورية الجديدة وفق بوصلة مصلحة صارمة: تحسين السيطرة البرية حمايةً لحدودها، واختراق أي تهديد إيراني متبقٍ.

إيران من النووي إلى الورق

بتنحية البُعد النمطي، «القضاء على البرنامج النووي الإيراني» قد يتحقق عسكرياً أو سياسياً. ولكن الخبراء يُحذّرون من صعوبة مهمة كهذه. حتى رئيس المخابرات الإسرائيلية قال صراحة إن “لا طريقة لتدمير برنامج نووي بطريقة عسكرية” بالكامل. وإذا نجحت الضربات بالفعل في تعطيل المفاعلات النووية أو مخزون اليورانيوم، تبقى هناك تساؤلات عن مصير طهران: فالضربة الإسرائيلية التي استهدفت العديد من المنشآت والعلماء رُبطت مباشرة بسعي إسرائيل لإضعاف النظام ككل. إذ تلخص التقديرات أن الضربات شكلت «هزيمة استخباراتية وجودية» بالنسبة لإيران، وكشفت “ثغرات قاتلة” في البنية العسكرية ونزع القدرات القيادية.

يتوقع المحللون أن تستمر إسرائيل في شن ضربات لتعطيل البنية النووية، ولكنها «وحدها» قد لا تملك الأسلحة اللازمة لتدمير الموقع بتلاته. وهذا ما يؤكده تقرير رويترز: “إسرائيل تفتقد القدرة لإخلاء المفاعل بالكامل بمفردها”. وفي الوقت نفسه، يسعى نتنياهو للترويج لفكرة «يوم التحرير الإيراني» ودعوة الإيرانيين إلى الثورة ضد حكومتهم. إلا أن العداء التاريخي ونفوذ الحرس الثوري يُظلان عقبة كبيرة: ورغم الدعوات، يقول بعض الخبراء إن شرائح المجتمع الإيرانية لن تقف على النَفَس ذاته لنبذ «ثورة» استمرت لأربعة عقود.

وعن مستوى الصراع، أشار الخبير كلود مونيكيه إلى أربعة ردود محتملة من طهران: ضرب إسرائيل بطائرات بدون طيار (بدأ بالفعل)، هجمات مشتركة مع وكلاء مثل الحوثيين، أعمال إرهابية بعيدة المدى، أو حتى محاولة حظر مضيق هرمز. لكن في جميع السيناريوهات يبقى للحرس الثوري موقف حاسم: فهو قد يرد بوسائل «تقليدية» محدودة، لكن الغارات الإسرائيلية والأمريكية الحامية حالت دون قدرة إيرانية فعلية على تصعيد شامل. ويدخل على الخط الاقتصادي: فالعقوبات كانت تعصف بالاقتصاد الإيراني منذ سنوات، ووصف دبلوماسي غربي عام 2025 الاقتصاد بـ«كارثي» لكونه «يحتاج لإنهاء العقوبات وجذب الاستثمارات».

ماذا بعد النووي؟ إذا غُلب البرنامج النووي الإيراني نهائياً في السيناريو، سيجد النظام نفسه عاريًا بلا درع نووي ولا تمايز استراتيجي. قد يدفع ذلك بالسلطات الإيرانية لحماية النظام بالوسائل المتاحة: تفكيك شبكات الوكلاء تدريجياً، والتركيز على الاقتصاد الداخلي. لكن كُلما تراجع حجم التهديد العسكري المباشر على إسرائيل، زاد احتمال أن يعيد اللاعبون الإقليميون صياغة تحالفاتهم. فمثلاً حوار النفط والمال قد يدفع بعض الدول (السعودية، الإمارات) نحو تقارب مع إيران لإعادة استقرار أسواق الطاقة. وفي الغضون، يظل خليط المقاومة في لبنان، العراق، اليمن وغزة قائمة؛ ربما تُراقب إسرائيل ما بعد النووي عن كثب، لكنها ليست بمجرد لعبة شطرنج تحسم بصفعة واحدة.

في صورة تلخص دمار الضربات الإسرائيلية على المنشآت الإيرانية، قد يبدو أن رأس النظام الإيراني يخضع لضغط تاريخي. ومع ذلك، تحذر التقارير من أن خلل القوة النسبي هذا قد يدفع الحكومة الإيرانية لتعديل استراتيجيتها الإقليمية (مثل مبادرة «مودّع» التي اقترحها ظريف للتعاون مع الجوار دون إسرائيل)، أو فرض شروط جديدة. باختصار: القضاء على النووي لن يشطب نفوذ إيران بالكامل، لكنه سيجبرها على إعادة تموضعٍ صعب في الملعب السياسي.

إسرائيل: هل هي القوة المطلقة؟

في ضوء جميع ما سبق، تلوح أمام إسرائيل فرصة تاريخية لتكريس سيطرتها الإقليمية. فمحلل الأمن كلود مونيكيه يقول إن «ميزان القوى في الشرق الأوسط رجح بشكلٍ كبير لصالح إسرائيل» بعد الضربات على إيران، وإن النظام الإيراني «تعرض لهزيمة عسكرية جسيمة، ولا قدرة له على شن حرب شاملة ضد إسرائيل» بفضل تفوقها الجوي. وقد تصبح إسرائيل «ربّ القوة العسكرية النوعية» في المنطقة، تمتلك التفوق التكنولوجي والردع النووي غير المُعترف رسمياً، وتحافظ على دعم واشنطن الكامل. في أعين كثير من قادتها ومثقفيها، إسرائيل اليوم –كما يقول مقالٌ في «ألجماينر»– «أكثر القوى نفوذاً في الشرق الأوسط وأشدّها صلابة».

وبالفعل، على أرض الواقع، فُتح الباب أمام إسرائيل لتحديث مفهومها الأمني بالكامل. فإسرائيل تعهدت بعد 7 أكتوبر بالتحول من سياسة الاحتواء إلى سياسة «الوقاية والجاهزية» مع استعداد للرد «فوريًا بل وربما متناسب فوق اللازم». وهذا يعني ضوءًا أخضرًا عملياً لنزع قدرات أي عدو نهائيًا قبل أن تشكل تهديداً حقيقيًا. وبسبب هذا التوجه، رفعت إسرائيل حجم إنتاج صناعتها العسكرية، وبدأت تتوقف عن استيراد أسلحة تكتفي بها معركة الدفاع عن نفسها. مصفوفة القوة القائمة تشير الآن إلى أن إسرائيل لم تَجد نفسهَا من حيث التوازن العسكري الإقليمي منذ عقود.

لكن هل جعلها ذلك حقًا «قوة لا تُقهَر»؟ الواقع يقول إن التاريخ العسكري الإسرائيلي حافل ببيان العكس. ففي حرب 1973 (يوم الغفران)، كادت «الجدار الحديدي» أن يتراجع أمام المفاجأة العربية. وفي كل الحروب والخلافات، كان هناك دوماً قانون غير مكتوب: «إسرائيل لم تتمكن قط من القضاء نهائيًا على أي من أعدائها». وحتى الآن، فإن الألغام المتبقية للحرب الطويلة لا تزال مزروعة في لبنان وغزة والضفة. فرغم اغتيال زعماء المقاومة واستنزافها، يبقى احتمال تجدد المقاومة قائمًا عبر تكتيكات غير تقليدية. ضف إلى ذلك الضغوط الداخلية، مثل شعبية اليمين المتطرف وأسئلة العولمة والأخطار اليمينية في صفوفها.

أمَّا العرب المؤيدون لإسرائيل (الإمارات، البحرين، المغرب) فقد حققوا مصالح اقتصادية وأمنية ملموسة. فالعلاقات الاقتصادية الإماراتية-الإسرائيلية برزت بنمو سريع مع توقيع اتفاق تجارة حرة وشراكة اقتصادية شاملة تستهدف رفع التبادل إلى 10 مليارات دولار بحلول 2027 (مقارنة بـ2.5 مليار عام 2022). وبالمقابل، الدول المناهضة منقطعة على نفسها إلى حدٍّ كبير؛ فالسعودية لم تفتح طريق السلام بعد (وترفض التطبيع بلا “قيمومتين” على الفلسطينيين)، وقطر تجاهل تهديد المواجهة المفتوحة قدر الإمكان. تركيا بدورها، رغم علاقاتها الاقتصادية مع الغرب، تحتفظ بلهجة نقدية لإسرائيل، وتواصل دعمها للحقوق الفلسطينية لإرضاء جمهورها.

في النهاية، قد نلخص: تحالف «أبراهام» يعرض نموذجًا يقوده التفاهم مع إسرائيل كأساس لهدنة إقليمية طويلة الأمد. ولكن هذا الربط لا يزال هشاً؛ فالضعف المستجد لإيران قد يدفع اللاعبين غير معنيين بالاتفاقيات (تركيا، روسيا، الصين) إلى إعادة صياغة التحالفات خارج إطار «أبراهام». أي أن الهيمنة الإسرائيلية قد تتعثر إذا أدت التغيرات إلى إعادة توازنٍ إقليمي أو وصول كتلة عسكرية مزودة بأسلحة متطورة.

المصير النهائي للقضية الفلسطينية

إزاء هذا الزخم من التغيرات، يُطرح سؤال مركز: ماذا لو سيطرت إسرائيل على الإقليم بشكل فعلي؟ ألا يؤدي ذلك إلى دفن القضية الفلسطينية نهائياً، أم أن الضغط سيجعلها مركزًا للمرحلة المقبلة؟ الواقع أن الصورة ليست بيضاء أو سوداء. في ظل ازدياد تحالف إسرائيل مع بعض الدول الخليجية وزيادة الأعمال المشتركة، يبدو أن القضية قد تراجعت إلى خلفية الاهتمامات الرسمية. فمصر والأردن المتصالحتان، وأكثر الدول الخليجية نفوذاً، أبدت اهتماماً بإبقاء أبواب التطبيع مفتوحة طالما كان ذلك لصالح أمنها الاقتصادي والسياسي. وحتى حين ساءت أوضاع قطاع غزة، لم تخش السلطات الإماراتية والبحرينية من اختبار العلاقات مع تل أبيب، ما دامت الحماية الأمنية مُفعلّة.

لكن هناك مؤشرات على أن ثمن هذا التطبيع المستمر قد يرتفع. فقد أكدت القيادة السعودية أنها لن تضع العلاقات مع إسرائيل إلا مقابل مبادرة جادة لحلّ قضية الفلسطينيين، ورأى عدد من الباحثين أن نجاح “الحرب الاقتصادية” على إيران قد يَجُدّد المحادثات الأمريكية-الإيرانية ويُعيد طرح حل الدولتين كمطلب لا غنى عنه. بمعنى آخر، إذا قررت واشنطن إنجاز صفقة مع طهران في 2025 بدلاً من «القصف حتى النهاية»، سيزول أحد الأعمدة التي بنى عليها بعض العرب «مظلتهم الأمنية» بوساطة إسرائيل. حينها قد يعود زخم المطالبة بحل سياسي للصراع الفلسطيني كشرط للتوسّع في التطبيع. أما إذا لم تتم تلك الصفقة، فقد تتسرّع دول عربية أخرى (ربما قطر أو تركيا القريبة من الدوحة) في استغلال الأرضية الجامدة لمقاربة حل يضمن حقوق الفلسطينيين على الأقل في أطر دولية جديدة (مثل المصالحة العربية أو مبادرات ثنائية).

لهذا، لا يبدو أن القضية الفلسطينية ستُمحى تلقائياً. بل إن الفعلية الإسرائيلية التي تهدف لتحجيمها قد تؤدي لاحقاً إلى تفجيرها بصورة أقوى إذا استُبدلت الضغوط العسكرية بالضغوط الدبلوماسية. وفي كل الأحوال، تبقى مجموعة حماس والجهاد ومنظمة التحرير والقوى الشعبية حاضرةً كجمرة تحت الرماد، تنتظر منطق الأحداث ليحدد مصيرها النهائي.

نحو خريطة شرق أوسطية جديدة؟

باختصار، إذا تحقق هذا السيناريو، سترسم “خريطة” جديدة للشرق الأوسط تتجه بشكل لافت نحو تفوق نفوذ إسرائيلي وتقلّص نفوذ محور المقاومة. ستصبح إسرائيل اللاعب الأوحد الذي يحدد نسقًا أمنيّاً جديداً (وإن حتى باستقرار نسبي محدود). استراتيجياً، ستربط دول الخليج شراكات أمنية وتجارية مع إسرائيل أعمق من ذي قبل، فيما يستمر النظام الإيراني المدمَّر في التراجع دولياً واقتصادياً. لبنان قد يتحول إلى حقل معركة أو جمهورية ضعيفة يشغلها حزب الله بلا قائد مؤثر، وقد تتخلّف سوريا خلف شرذمة من الحكومات وصراعات النفوذ (تركيا وأمريكا وروسيا وإسرائيل).

لكن هذه الصورة المهيمنة تواجه مفترقات: هل ستدوم الموازين كما هي على إثره، أم أن تحالفاتنا الإقليمية أرحب من أن تُسحق دفعة واحدة؟ التاريخ يشير إلى أن إسرائيل القوية تصطدم بالاضطرابات المزمنة: فحتى بعد التفوق العسكري، ظلّت حكوماتها تتذكر دوماً «ثمن السلام القاسي» والحروب المستمرة على مقاومات كثيفة.

الدولةالوضع قبل السيناريو (2023)الوضع المتوقع بعده
لبناناقتصاد منهار (نحو 23 مليار دولار ناتج سنوي 2021)، وحزب الله يتحكم بخطوط الصواريخ (130,000+).صراع داخلي محتمل: حكومة ضعيفة بلا نصير خارجي. حزب الله في حالة إرباك بعد الاغتيال، مع إمكانية انقسام الصف الشيعي. قوة أمنية دولية أو لبنانية جديدة للحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار.
سوريانظام الأسد يسيطر على الجزء الأكبر، ولكن اقتصاد مدمَّر (GDP انخفض >50% بين 2010–2020) ونازحون بالملايين. إيران تعزز حضورها العسكري والخدماتي. إسرائيل تسيطر على هضبة الجولان وشنّت مئات الغارات.فراغ سلطة وإعادة رسْم خارطة النفوذ: حكومة انتقالية إسلامية (جبهة تحرير) تسيطر على بعض المناطق. تركيا توسع نفوذها في الشمال. إيران تُقصى تدريجياً (لم تعد في وضع يتيح لها بسط النفوذ كما كان). إسرائيل تحافظ على توسعها في الجنوب مقابل منطقة أمان شمالية خاضعة لها فعلاً.
إيرانامتلكت أسلحة نووية (موقع نطنز تحت الأنفاق) وبرنامج صاروخي متقدم، وكانت الراعي الرئيسي لمحور المقاومة.فُقِدَ برنامجها النووي بتأثير الضربات، وتم تدمير مفاعل نطنز للأسف. نظام ضعيف داخلياً يعاني أزمات اقتصادية (عقوبات خانقة أُعيد فرضها). قد يحافظ الحرس الثوري على سلطة مركزية، لكن من دون «مظلة» نووية وسياسات عدائية جديدة، وستتبلور إيران في شكلٍ جديد قد يميل للمصالحة مع جيرانها الخائفين.
الخليج (السعودية والإمارات والكويت)علاقات متوترة مع إيران، بعض التطبيع مع إسرائيل (الاتفاقيات الإبراهيمية مع الإمارات والبحرين والمغرب). اقتصادات تصبو للتنوع والابتكار (السعودية بنيوتها الكبيرة).تعزيز للتعاون الأمني والتجاري مع إسرائيل (في الطاقة، التكنولوجيا، الدفاع). السعودية لن تحرك ساكناً إلى أن ترى خطوات حاسمة بشأن الفلسطينيين. الاتصالات الاقتصادية مع إيران قد تعود بشكل مشروط (ضمن إطار نووي جديد)، أو تظل محدودة بانتظار الحل السياسي.
فلسطينالحُكم مقسوم بين سلطة حاكمة محدودة في الضفة وغزة تحت سيطرة حماس. القضية الفلسطينية عند العرب نقطة تجمع رأي عام ولكنها تراوح مكانها سياسياً.قد تسحب القضية إلى الخلفية في القصر السلطوي لبيروت وأبوظبي، لكن** العداء الشعبي وإشارات القوى الإقليمية (تركيا، إيران في إطار جديد، والسعودية) قد تحرّكها مجدداً**. إذا لم تتقدّم حلولا سياسية، يبقى احتمال اندلاع اشتباكات جديدة بين الإسرائيليين والفلسطينيين قائماً، وربما بحركة مقاومة غير مركزية تحتفل بفرص تحرير «يوميوم الاحتجاج».

التغييرات أعلاه مبنية على بيانات مثل عجز لبنان الاقتصادي والإنساني الضخم، وإعادة تشظي سوريا، ونصيب إيران من التفجير النووي. إلا أن مستقبل كل دولة سيعتمد بشكل مصيري على ردود فعل الداخل والمحيط الدولي. وفي كل الأحوال، إن «فجر الشرق الأوسط الجديد» قد يولّد خريطة جيوسياسية تُدار فيها حسابات القوى بلغة الـ«حروب البرد» والتحالفات المتجددة، لا فقط بسطوة الدبابات.

المصادر: اعتمدنا في التحليل على تقرير “بروكينغز” في 30 سبتمبر 2024، وثيقة للواشنطن إنستيتيوت بعد سقوط الأسد، تقارير رسمية للبنك الدولي، ونشرات استخبارات دولية (رويترز، يورونيوز، وغيرها)، فضلاً عن أبحاث أكاديمية ومراكز تحليل (CSIS، Carnegie، إلخ). هذه المصادر ترسم أفق قدر المستطاع لواقعٍ مفترض ومدته القريبة، لكنها لا تُلغي أبداً عامل المفاجأة والبوصلة المزدوجة لكل اللاعبين في المنطقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى