في عالم الوفرة… ملايين يتضورون جوعًا

في زمن تتباهى فيه الأمم بتقدمها التكنولوجي، وبمدنها الذكية، ومركباتها التي تحلّق بلا طيار، يخيّم على الكوكب مشهد بدائيّ يبعث على الذهول والخجل: إنسان جائع.

إنه ليس جائعًا في أطراف التاريخ، بل في قلب هذا الحاضر المضيء بشاشات العرض ومنصات التجارة الرقمية.
يمدّ يده إلى رغيفٍ لا يجده، بينما تُغرق موائد أخرى بفائض لا يُؤكل.
تلك ليست فوارق طبقية، بل جريمة بشرية مكتملة الأركان، تتمّ تحت مرأى النظام العالمي وبمباركة صمته العارم.


1. صورة الجوع كما تسجلها الأرقام: البرد القاتل للحقائق

في آخر تقارير منظمة الأغذية والزراعة (FAO)، يُفصح العالم عن جرحه القديم بلغة جديدة:
أكثر من 735 مليون إنسان يرزحون تحت نير الجوع الحاد، وأكثر من 2.4 مليار آخرين يتخبطون في درجات متفاوتة من انعدام الأمن الغذائي.
وراء هذه الأرقام لا تكمن مجرد إحصاءات بيروقراطية، بل صرخات مكتومة، وطفولة معطّلة، وأمهات يُغشين بأعين دامعة موائد فارغة.

لكن السؤال المُرّ يتكرّر:
كيف يمكن لكوكبٍ ينتج ما يكفي لإطعام 10 مليارات نسمة، أن يعجز عن إطعام سبعة؟


2. الجوع ليس قدَرًا… بل خيارٌ سياسيّ

إذا كان إنتاج الغذاء في العالم وفيرًا، فإن المجاعة اليوم ليست ناتجة عن الشح، بل عن المنع، والاحتكار، والاستغلال.
ثلث الغذاء العالمي يُهدر سنويًا — نحو 1.3 مليار طن — ويكفي لإنهاء المجاعة ثلاث مرّات.
لكن ما بين المزارع والأسواق، هناك يدٌ خفيّة تُعيد رسم خريطة الجوع وفقًا لمصالح القوى الكبرى، وتحوّل الغذاء إلى ورقة ضغط، لا إلى حقّ إنساني.

إنها هندسة الجوع، حيث يُقرَّر من يأكل ومن يجوع، لا بناءً على الحاجة، بل على قواعد السوق والنفوذ.


3. خرائط الجوع تُرسم بالدبابات… لا بالطقس

الحروب ليست فقط صراعًا على السلطة أو الجغرافيا، بل أيضًا آلة لصناعة الجوع.
في اليمن، كما في السودان، كما في غزة، يُمنع دخول الدقيق، وتُقصف صهاريج المياه، وتُحاصَر الأرحام.

ما يقوله برنامج الأغذية العالمي بوضوح:
60% من الذين يعانون الجوع في العالم، هم ضحايا لنزاعات مسلحة.
الجوع هنا لا ينهش الجسد فقط، بل يُستَخدم كسلاح إذلال، وكسقف منخفض لحياة لا تستحق التفاوض.


4. من سرق خبز الفقراء؟

في أنظمة تسكنها ثروات النفط والفوسفات، يعيش الملايين على فتات الإعانات، لأن الفساد المحليّ لا يقلّ شراسة عن الاستعمار الجديد.

  • تُترك الحقول بلا حرث.
  • تُباع الأراضي الزراعية لمستثمرين أجانب.
  • وتُفرغ الميزانيات من الدعم الغذائي باسم “الإصلاح الاقتصادي”، في حين تُنفَق المليارات على مكاتب الوزراء ومؤتمرات الوجاهة.

في المقابل، تُغدق الحوافز على شركات عملاقة تُراكم أرباحها على حساب قوت البسطاء.
هذه ليست مصادفات، بل بنية عالمية تجعل الجوع تجارة مربحة.


5. الطفل الجائع لا يحفظ درسه… بل يحفظ الجوع

الجوع لا يصيب المعدة وحدها، بل ينهك الذاكرة، ويعطّل الإدراك، ويُطفئ الحلم قبل أن يولد.

  • الطفل الجائع لا يلعب.
  • والمراهق الجائع لا يخطط.
  • والشاب الجائع لا يطمح، بل ينكفئ نحو العنف، الهجرة، أو الغرق.

إنه نفي صامت للإنسان داخل الإنسان.
وحين يكون الجوع جماعيًا، فإننا لا نخسر أجسادًا فقط، بل نخسر أجيالًا كاملة من الطموح والخيال والكرامة.


6. هل يمكن كسر حلقة الجوع؟

نعم، الجوع يمكن اجتثاثه.
لكنه يتطلّب أكثر من إرسال طرود غذائية في الأعياد.
يتطلّب:

  • إصلاحًا جذريًا في آليات التوزيع،
  • تفكيك احتكار الأسواق الزراعية،
  • دعمًا مباشرًا للفلاحين المحليين،
  • وعدالة في إدارة الأزمات الدولية، بحيث لا تُدفع الشعوب ثمن نزاعات لا تخصّها.

لكنّ كل هذا مرهون بإرادة عالمية لم تولد بعد، وضمير عالمي لم يُستدعَ بعد.


خاتمة: حين يجوع العالم، تسقط الإنسانية من عرشها

الجوع في القرن الحادي والعشرين ليس إخفاقًا تقنيًا، بل وصمة على جبين السياسة والاقتصاد العالميين.
إنه نظام جائر، يعمل بكفاءة عالية على إنتاج الوفرة… وتوزيع الجوع.

فلتسقط النظريات، ولتُكسر الأقنعة.
لأن الخبز، في جوهره، ليس مجرد مادة غذائية… بل رمز للكرامة، وللحقّ الأول في الحياة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى